الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المبسوط
.بَابُ الْحَدَثِ فِي الصَّلَاةِ: وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الطَّهَارَةَ شَرْطُ بَقَاءِ الصَّلَاةِ كَمَا هُوَ شَرْطُ ابْتِدَائِهَا فَكَمَا لَا يَتَحَقَّقُ شُرُوعُهُ فِي الصَّلَاةِ بِدُونِ هَذَا الشَّرْطِ فَكَذَلِكَ بَقَاؤُهَا، وَلِأَنَّ الْحَدَثَ مُنَافٍ لِلصَّلَاةِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا صَلَاةَ إلَّا بِطُهُورٍ» وَلَا بَقَاءَ لِلْعِبَادَةِ مَعَ وُجُودِ مَا يُنَافِيهَا. وَجْهُ قَوْلِنَا حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قَاءَ أَوْ رَعَفَ أَوْ أَمَذْي فِي صَلَاتِهِ فَلْيَنْصَرِفْ وَلْيَتَوَضَّأْ وَلْيَبْنِ عَلَى مَا مَضَى مِنْ صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ»، وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فِي الصَّلَاةِ فَتَوَضَّأَ وَبَنَى وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فَاسْتَخْلَفَ وَتَوَضَّأَ وَبَنَى عَلَى صَلَاتِهِ وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ كَانَ يُصَلِّي خَلْفَ عُثْمَانَ فَرَعَفَ فَانْصَرَفَ وَتَوَضَّأَ وَبَنَى عَلَى صَلَاتِهِ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا، وَالْقِيَاسُ يُتْرَكُ بِالْآثَارِ. ثُمَّ الَّذِي سَبَقَهُ الْحَدَثُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُنْفَرِدًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُقْتَدِيًا أَوْ إمَامًا، فَأَمَّا الْمُنْفَرِدُ يَذْهَبُ فَيَتَوَضَّأُ ثُمَّ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ إتْمَامِ الصَّلَاةِ فِي بَيْتِهِ وَبَيْنَ الرُّجُوعِ إلَى مُصَلَّاهُ لِيَكُونَ مُؤَدِّيًا جَمِيعَ الصَّلَاةِ فِي مَكَان وَاحِدٍ وَهُوَ أَفْضَلُ، وَإِنْ أَتَمَّ فِي بَيْتِهِ فَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ إلَّا تَرْكُ الْمَشْيِ فِي الصَّلَاةِ وَذَلِكَ لَا يَضُرُّهُ، وَأَمَّا الْمُقْتَدِي إذَا فَرَغَ مِنْ الْوُضُوءِ، فَإِنْ لَمْ يَفْرُغْ إمَامُهُ مِنْ الصَّلَاةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ، وَلَوْ أَتَمَّ بَقِيَّةَ صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ لَا يُجْزِئُهُ لِأَنَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ إمَامِهِ مَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الِاقْتِدَاءِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ فَرَغَ إمَامُهُ يُخَيَّرُ هُوَ كَمَا بَيَّنَّا، وَإِنْ كَانَ إمَامًا تَأَخَّرَ وَقَدَّمَ رَجُلًا مِمَّنْ خَلْفَهُ يُصَلِّي بِالْقَوْمِ وَالشَّافِعِيُّ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- فِي هَذَا يُوَافِقُنَا، فَإِنَّ عَلَى أَصْلِهِ بِحَدَثِ الْإِمَامِ لَا تَفْسُدُ صَلَاةُ الْقَوْمِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ ظَهَرَ أَنَّهُ كَانَ مُحْدِثًا جَازَ صَلَاةُ الْقَوْمِ، فَيَسْتَخْلِفُ لَهُمْ ثُمَّ يَتَوَضَّأُ وَيَسْتَقْبِلُ، وَعِنْدَنَا يَسْتَخْلِفُ لِأَنَّهُ عَجَزَ عَنْ إتْمَامِ مَا ضَمِنَ لَهُمْ الْوَفَاءَ بِهِ فَيَسْتَعِينُ بِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ هَذَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَمَرَ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ خِفَّةً فَخَرَجَ يُهَادَى بَيْنَ اثْنَيْنِ بَعْدَ مَا افْتَتَحَ أَبُو بَكْرٍ الصَّلَاةَ فَلَمَّا سَمِعَ أَبُو بَكْرٍ حِسَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَأَخَّرَ وَتَقَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّمَا تَأَخَّرَ لِأَنَّهُ عَجَزَ عَنْ الْمُضِيِّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} فَصَارَ هَذَا أَصْلًا فِي حَقِّ كُلِّ إمَامٍ عَجَزَ عَنْ الْإِتْمَامِ أَنَّهُ يَتَأَخَّرُ وَيَسْتَخْلِفُ ثُمَّ يَتَوَضَّأُ وَيَبْنِي عَلَى صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ، فَإِنْ تَكَلَّمَ وَاسْتَقْبَلَ فَهُوَ أَفْضَلُ لِيَكُونَ أَبْعَدَ عَنْ شُبْهَةِ الِاخْتِلَافِ وَأَقْرَبَ إلَى الِاحْتِيَاطِ، فَإِنْ كَانَ حِينَ يَرْجِعُ إلَى أَهْلِهِ بَالَ وَاسْتَمْشَى لَمْ يَبْنِ عَلَى صَلَاتِهِ لِأَنَّ هَذَا حَدَثٌ عَمْدٌ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْكَلَامِ أَوْ فَوْقَهُ فِي إفْسَادِ الصَّلَاةِ، وَجَوَازُ الْبِنَاءِ كَانَ بِالْآثَارِ فِي الْحَدَثِ الَّذِي يَسْبِقُهُ فَلَا يُقَاسُ مَنْ يَتَعَمَّدُ الْحَدَثَ؛ لِأَنَّ فِيمَا يَسْبِقُهُ بَلْوَى وَضَرُورَةً بِخِلَافِ مَا يَتَعَمَّدُهُ، وَلِهَذَا لَوْ اُبْتُلِيَ بِالْجَنَابَةِ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ لَمْ يَبْنِ بَعْدَ الِاغْتِسَالِ لِأَنَّهُ مِمَّا لَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى. قَالَ: (فَإِنْ تَكَلَّمَ فِي صَلَاتِهِ نَاسِيًا أَوْ عَامِدًا مُخْطِئًا أَوْ قَاصِدًا اسْتَقْبَلَ الصَّلَاةَ)، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إذَا كَانَ نَاسِيًا أَوْ مُخْطِئًا لَا يَسْتَقْبِلُ إلَّا إذَا طَالَ كَلَامُهُ، وَاحْتَجَّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} وَبِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» وَاعْتِمَادُهُ عَلَى حَدِيثِ «أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إحْدَى صَلَاتَيْ الْعَشِيِّ إمَّا الظُّهْرُ وَإِمَّا الْعَصْرُ فَسَلَّمَ عَلَى رَأْسِ رَكْعَتَيْنِ فَقَامَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ فَقَالَ: أَقَصُرَتْ الصَّلَاةُ أَمْ نَسِيتَهَا فَقَالَ: كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فَقَالَ: بَعْضُ ذَلِكَ قَدْ كَانَ، فَنَظَرَ إلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا وَقَالَ: أَحَقٌّ مَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ، فَقَالَا: نَعَمْ، فَأَتَمَّ صَلَاتَهُ وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ» فَقَدْ تَكَلَّمَ نَاسِيًا ثُمَّ بَنَى عَلَى صَلَاتِهِ وَقَاسَ الْكَلَامَ بِالسَّلَامِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَاطِعٌ ثُمَّ فِي السَّلَامِ. .فَصْلٌ بَيْنَ الْعَمْدِ وَالنِّسْيَانِ: وَفِي حَدِيثِ «مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: صَلَّيْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَطَسَ بَعْضُ الْقَوْمِ، فَقُلْتُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ فَرَمَانِي الْقَوْمُ بِأَبْصَارِهِمْ، فَقُلْتُ: وَاثُكْلَ أُمَّاهُ مَالِي أَرَاكُمْ تَنْظُرُونَ إلَيَّ شَزْرًا، فَضَرَبُوا بِأَيْدِيهِمْ عَلَى أَفْخَاذِهِمْ، فَعَلِمْتُ أَنَّهُمْ يُسَكِّتُونَنِي فَلَمَّا فَرَغَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَاَللَّهِ، مَا رَأَيْت: مُعَلِّمًا أَحْسَنَ تَعْلِيمًا مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا نَهَرَنِي وَلَا زَجَرَنِي وَلَكِنْ قَالَ: إنَّ صَلَاتَنَا هَذِهِ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ، إنَّمَا هِيَ لِلتَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ» وَمَا لَا يَصْلُحُ لِلصَّلَاةِ فَمُبَاشَرَتُهُ مُفْسِدَةٌ لِلصَّلَاةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ مُبْطِلٌ لِلصَّلَاةِ نَاسِيًا أَوْ عَامِدًا لِهَذَا، وَالْخُرُوجُ فِي الِاعْتِكَافِ كَذَلِكَ، وَالْجِمَاعُ فِي الْإِحْرَامِ كَذَلِكَ، وَلِهَذَا لَوْ طَالَ الْكَلَامُ كَانَ مُفْسِدًا، وَلَوْ كَانَ النِّسْيَانُ فِيهِ عُذْرًا لَاسْتَوَى فِيهِ أَنْ يُطَوِّلَ أَوْ يُقَصِّرَ كَالْأَكْلِ فِي الصَّوْمِ. وَالْقِيَاسُ فِي السَّلَامِ أَنَّهُ مُفْسِدٌ، وَإِنْ كَانَ نَاسِيًا وَلَكِنْ اسْتَحْسَنَّا مَا فِيهِ لِمَعْنَى لَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ، وَهُوَ أَنَّ السَّلَامَ مِنْ جِنْسِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ الْمُتَشَهِّدَ يُسَلِّمُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ وَهُوَ اسْمُ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا أُخِذَ حُكْمُ الْكَلَامِ لِكَافِ الْخِطَابِ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْخِطَابِ فِيهِ عِنْدَ الْقَصْدِ، وَإِذَا كَانَ نَاسِيًا شَبَّهْنَاهُ بِالْأَذْكَارِ، وَإِذَا كَانَ عَالِمًا شَبَّهْنَاهُ بِالْكَلَامِ، فَأَمَّا الْكَلَامُ فَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَذْكَارِ الصَّلَاةِ فَكَانَ مُنَافِيًا لِلصَّلَاةِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَالْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ عُذْرٌ فِي رَفْعِ الْإِصْرِ وَعَلَيْهِ تُحْمَلُ الْآيَةُ وَالْخَبَرُ، فَأَمَّا حَدِيثُ ذِي الْيَدَيْنِ فَقَدْ كَانَ فِي وَقْتٍ كَانَ الْكَلَامُ فِيهِ مُبَاحًا فِي الصَّلَاةِ ثُمَّ انْتَسَخَ الْكَلَامُ فِي الصَّلَاةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ ذَا الْيَدَيْنِ كَانَ عَامِدًا بِالْكَلَامِ، وَكَذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالِاسْتِقْبَالِ (فَإِنْ قِيلَ:) كَيْفَ يَسْتَقِيمُ هَذَا وَإِسْلَامُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بَعْدَ فَتْحِ خَيْبَرَ وَقَدْ قَالَ: صَلَّى بِنَا، وَحُرْمَةُ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ كَانَتْ ثَابِتَةً حِينَ جَاءَ مِنْ الْحَبَشَةِ، وَذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْهِجْرَةِ (قُلْنَا:) مَعْنَى قَوْلِهِ: بِنَا بِأَصْحَابِنَا وَلَا وَجْهَ لِلْحَدِيثِ إلَّا هَذَا؛ لِأَنَّ ذَا الْيَدَيْنِ قُتِلَ بِبَدْرٍ وَاسْمُهُ مَشْهُورٌ فِي شُهَدَاءِ بَدْرٍ وَذَلِكَ قَبْلَ خَيْبَرَ بِزَمَانٍ طَوِيلٍ. قَالَ: (وَإِنْ قَهْقَهَ فِي صَلَاةٍ اسْتَقْبَلَ الصَّلَاةَ وَالْوُضُوءَ عِنْدَنَا نَاسِيًا كَانَ أَوْ عَامِدًا)؛ لِأَنَّ الْقَهْقَهَةَ أَفْحَشُ مِنْ الْكَلَامِ عِنْدَ الْمُنَاجَاةِ، وَلِهَذَا جُعِلَتْ نَاقِضَةً لِلْوُضُوءِ ثُمَّ سَوَّى بَيْنَ النِّسْيَانِ وَالْعَمْدِ وَفِي الْقَهْقَهَةِ أَوْلَى وَالْبِنَاءُ لِأَجْلِ الْبَلْوَى وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْقَهْقَهَةِ، وَإِنْ قَهْقَهَ بَعْدَ مَا قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ كَمَا لَوْ تَكَلَّمَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ، وَلَكِنْ يَلْزَمُهُ الْوُضُوءُ لِصَلَاةٍ أُخْرَى عِنْدَنَا وَلَا يَلْزَمُهُ عِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: الْقَهْقَهَةُ عَرَفْنَاهَا حَدَثًا بِالنَّصِّ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ وَالنَّصُّ وَرَدَ بِإِعَادَةِ الصَّلَاةِ وَالْوُضُوءِ بِالْقَهْقَهَةِ، فَكُلُّ قَهْقَهَةٍ تُوجِبُ إعَادَةَ الصَّلَاةِ تُوجِبُ الْوُضُوءَ وَمَا لَا يُوجِبُ مُرَاعَاةَ الصَّلَاةِ لَا يُوجِبُ الْوُضُوءَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. (وَلَنَا) أَنَّ الضَّحِكَ صَادَفَ حُرْمَةَ الصَّلَاةِ لِبَقَائِهَا مَا لَمْ يُسَلِّمْ حَتَّى لَوْ نَوَى الْمُسَافِرُ الْإِقَامَةَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ، وَبِالنَّصِّ صَارَ الضَّحِكُ حَدَثًا لِمُصَادَفَتِهِ حُرْمَةَ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ الْجِنَايَةَ تَفْحُشُ بِالْقَهْقَهَةِ فِي حَالَةِ الْمُنَاجَاةِ، وَذَلِكَ بَاقٍ بِبَقَاءِ التَّحْرِيمَةِ فَأَلْزَمْنَاهُ الْوُضُوءَ لِهَذَا، فَأَمَّا إعَادَةُ الصَّلَاةِ فَلِبَقَاءِ الْبِنَاءِ عَلَيْهِ وَعَجْزِهِ عَنْهُ بِالْقَهْقَهَةِ لِفَسَادِ ذَلِكَ الْجُزْءِ، وَلَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ الْبِنَاءُ هُنَا فَلَمْ تَلْزَمْهُ الْإِعَادَةُ لِهَذَا وَكَذَلِكَ لَوْ قَهْقَهَ فِي سَجْدَتَيْ السَّهْوِ؛ لِأَنَّ الْعَوْدَ إلَيْهِمَا يَرْفَعُ السَّلَامَ دُونَ الْقَعْدَةِ، فَكَأَنَّهُ قَهْقَهَ بَعْدَ الْقَعْدَةِ قَبْلَ السَّلَامِ إلَّا فِي رِوَايَةٍ شَاذَّةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْعَوْدَ إلَى سُجُودِ السَّهْوِ يَرْفَعُ الْقَعْدَةَ كَالْعَوْدِ إلَى سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ، فَعَلَى تِلْكَ الرِّوَايَةِ تَلْزَمُهُ إعَادَةُ الصَّلَاةِ. قَالَ: (وَإِنْ قَهْقَهَ الْإِمَامُ وَالْقَوْمُ جَمِيعًا، فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ سَبَقَ بِهَا فَعَلَيْهِ إعَادَةُ الْوُضُوءِ وَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى الْقَوْمِ)؛ لِأَنَّهُمْ صَارُوا خَارِجِينَ مِنْ الصَّلَاةِ بِخُرُوجِ الْإِمَامِ مِنْهَا فَضَحِكَهُمْ لَمْ يُصَادِفْ حُرْمَةَ الصَّلَاةِ (وَإِنْ قَهْقَهَ الْقَوْمُ أَوَّلًا ثُمَّ الْإِمَامُ فَعَلَى الْكُلِّ إعَادَةُ الْوُضُوءِ)؛ لِأَنَّ قَهْقَهَةَ الْقَوْمِ صَادَفَتْ حُرْمَةَ الصَّلَاةِ وَكَذَلِكَ قَهْقَهَةُ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ خَارِجًا مِنْهَا بِخُرُوجِ الْقَوْمِ، وَإِنْ ضَحِكُوا مَعًا فَكَذَلِكَ؛ لِأَنَّ ضَحِكَ الْقَوْمِ لَمَّا اقْتَرَنَ بِضَحِكِ الْإِمَامِ كَانَ مُصَادِفًا حُرْمَةَ الصَّلَاةِ فِي حَقِّهِمْ، فَإِنَّ خُرُوجَهُمْ مِنْ حُكْمِ خُرُوجِ الْإِمَامِ فَيَعْقُبُهُ وَلَا يَقْتَرِنُ بِهِ. قَالَ: (إمَامٌ أَحْدَثَ فَقَدَّمَ رَجُلًا قَدْ فَاتَتْهُ رَكْعَةٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّي بِهِمْ بَقِيَّةَ صَلَاةِ الْإِمَامِ) وَالْأَوْلَى لِلْإِمَامِ أَنْ يُقَدِّمَ مُدْرِكًا لَا مَسْبُوقًا؛ لِأَنَّ الْمُدْرِكَ أَقْدَرُ عَلَى إتْمَامِ صَلَاتِهِ مِنْ الْمَسْبُوقِ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَلَّدَ إنْسَانًا عَمَلًا وَفِي رَعِيَّتِهِ مَنْ هُوَ أَوْلَى مِنْهُ فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَجَمَاعَةَ الْمُؤْمِنِينَ» وَلَكِنْ مَعَ هَذَا الْمَسْبُوقِ شَرِيكُهُ فِي التَّحْرِيمَةِ وَصِحَّةِ الِاسْتِخْلَافِ بِوُجُودِ الْمُشَارَكَةِ فِي التَّحْرِيمَةِ وَالْحَاجَةِ إلَى إصْلَاحِ صَلَاتِهِ، فَجَازَ تَقْدِيمُهُ وَقَامَ مَقَامَ الْأَوَّلِ فَيُتِمُّ مَا بَقِيَ عَلَى الْأَوَّلِ، فَإِذَا انْتَهَى إلَى مَوْضِعِ السَّلَامِ تَأَخَّرَ وَقَدَّمَ رَجُلًا مِنْ الْمُدْرِكِينَ لِيُسَلِّمَ بِهِمْ؛ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ السَّلَامِ لِبَقَاءِ رَكْعَةٍ عَلَيْهِ فَيَسْتَعِينُ بِمَنْ يَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَإِنَّ إتْمَامَهُ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ، فَلِهَذَا قَدَّمَ مُدْرِكًا لِيُسَلِّمَ بِهِمْ ثُمَّ يَقُومُ فَيَقْضِيَ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ صَلَاتِهِ. قَالَ: (فَإِنْ تَوَضَّأَ الْأَوَّلُ وَصَلَّى فِي بَيْتِهِ مَا بَقِيَ مِنْ صَلَاتِهِ فَإِنْ كَانَ صَلَّى بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ الثَّانِي مِنْ بَقِيَّةِ صَلَاتِهِ فَصَلَاتُهُ تَامَّةٌ)؛ لِأَنَّ الْإِمَامَةَ تَحَوَّلَتْ إلَى الثَّانِي، وَصَارَ الْأَوَّلُ كَوَاحِدٍ مِنْ الْمُقْتَدِينَ بِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُقْتَدِي إذَا أَتَمَّ بَقِيَّةَ صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ جَازَ، وَلَوْ صَلَّى قَبْلَ أَنْ يَفْرُغَ الْإِمَامُ الثَّانِي فَصَلَاتُهُ فَاسِدَةٌ كَغَيْرِهِ مِنْ الْمُقْتَدِينَ إذَا سَبَقَهُ الْحَدَثُ. قَالَ: (فَإِنْ قَعَدَ الْإِمَامُ الثَّانِي فِي الرَّابِعَةِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ ثُمَّ قَهْقَهَ فَعَلَيْهِ إعَادَةُ الْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ)؛ لِأَنَّهُ قَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ رَكْعَةٌ فَضَحِكُهُ حَصَلَ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ فِي حَقِّهِ، وَصَلَاةُ الْقَوْمِ تَامَّةٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِمْ الْبِنَاءُ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: صَلَاةُ الْقَوْمِ فَاسِدَةٌ لِفَسَادِ مَا مَضَى، وَلَوْ ضَحِكُوا بِأَنْفُسِهِمْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَانَتْ صَلَاتُهُمْ تَامَّةً، فَضَحِكُ الْإِمَامِ فِي حَقِّهِمْ لَا يَكُونُ أَكْثَرَ تَأْثِيرًا مِنْ ضَحِكِهِمْ، فَأَمَّا الْإِمَامُ الْأَوَّلُ، فَإِنْ كَانَ قَدْ فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ خَلْفَ الْإِمَامِ الثَّانِي مَعَ الْقَوْمِ فَصَلَاتُهُ تَامَّةٌ كَغَيْرِهِ مِنْ الْمُدْرِكِينَ، وَإِنْ كَانَ فِي بَيْتِهِ لَمْ يَدْخُلْ مَعَ الْإِمَامِ الثَّانِي فِي الصَّلَاةِ فَصَلَاتُهُ فَاسِدَةٌ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: صَلَاتُهُ تَامَّةٌ. وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ مُدْرِكٌ لِأَوَّلِ صَلَاتِهِ فَيَكُونُ كَالْفَارِغِ بِقَعْدَةِ الْإِمَامِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ وَالرِّوَايَةُ الْأُولَى أَصَحُّ وَأَشْبَهُ بِالصَّوَابِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ الْبِنَاءُ وَضَحِكُ الْإِمَامِ فِي حَقِّهِ فِي الْمَنْعِ مِنْ الْبِنَاءِ كَضَحِكِهِ، وَلَوْ ضَحِكَ هُوَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ، فَكَذَلِكَ ضَحِكُ الْإِمَامِ فِي حَقِّهِ، وَرِوَايَةُ أَبِي حَفْصٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى كَأَنَّهُ غَلَطٌ وَقَعَ مِنْ الْكَاتِبِ؛ لِأَنَّهُ اشْتَغَلَ بِتَقْسِيمٍ ثُمَّ أَجَابَ فِي الْفَصْلَيْنِ بِأَنَّ صَلَاتَهُ تَامَّةٌ وَظَاهِرُ هَذَا التَّقْسِيمِ يَسْتَدْعِي الْمُخَالَفَةَ فِي الْجَوَابِ. قَالَ: (رَجُلٌ سَلَّمَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ مِنْ الظُّهْرِ نَاسِيًا ثُمَّ ذَكَرَ فَظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ يَقْطَعُ الصَّلَاةَ فَاسْتَقْبَلَ التَّكْبِيرَ يَنْوِي بِهِ الدُّخُولَ فِي الظُّهْرِ ثَانِيَةً وَهُوَ إمَامُ قَوْمٍ وَكَبَّرُوا مَعَهُ يَنْوُونَ مَعَهُ ذَلِكَ فَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ الْأُولَى يُصَلُّونَ مَا بَقِيَ مِنْهَا وَيَسْجُدُونَ لِلسَّهْوِ) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ سَلَامَ الْإِمَامِ لَا يَقْطَعُ التَّحْرِيمَةَ، فَهُمْ فِي التَّحْرِيمَةِ فِي صَلَاتِهِمْ بَعْدُ قَدْ نَوَوْا إيجَادَ الْمَوْجُودِ وَذَلِكَ لَغْوٌ. بَقِيَ مُجَرَّدُ التَّكْبِيرِ وَهُوَ لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ، بِخِلَافِ مَنْ كَانَ فِي الظُّهْرِ فَنَوَى الْعَصْرَ وَكَبَّرَ؛ لِأَنَّهُ نَوَى إيجَادَ مَا لَيْسَ بِمَوْجُودٍ فَصَارَ خَارِجًا مِنْ الْأُولَى دَاخِلًا فِي الثَّانِيَةِ، فَإِنْ صَلَّوْا الْعَصْرَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ هَكَذَا، فَإِنْ قَعَدُوا فِي الثَّانِيَةِ جَازَتْ صَلَاتُهُمْ، وَمَا زَادُوا مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ نَافِلَةٌ لَهُمْ، فَإِنْ لَمْ يَقْعُدُوا فِي الثَّانِيَةِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُمْ لِاشْتِغَالِهِمْ بِالنَّفْلِ قَبْلَ إكْمَالِ الْفَرْضِ، حَتَّى لَوْ سَلَّمَ سَاهِيًا بَعْدَ ثَلَاثِ رَكَعَاتٍ فَجَدَّدَ التَّكْبِيرَ وَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ لَا تُجْزِئْهُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْعُدْ بَعْدَ الرَّكْعَةِ الرَّابِعَةِ حَتَّى صَلَّى رَكْعَةً أُخْرَى وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِفَرْضِهِ قَالَ: (رَجُل صَلَّى رَكْعَةً ثُمَّ جَاءَ قَوْمٌ فَاقْتَدُوا بِهِ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ وَقَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ قَهْقَهَ أَوْ أَحْدَثَ مُتَعَمِّدًا فَصَلَاتُهُ تَامَّةٌ)؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْعُدْ بَعْدَ الرَّكْعَةِ الرَّابِعَةِ حَتَّى صَلَّى رَكْعَةً أُخْرَى وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ الْبِنَاءُ، وَصَلَاةُ الْقَوْمِ فَاسِدَةٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: لَا تَفْسُدُ؛ لِأَنَّهُ لَا سَبَبَ لِإِفْسَادِ صَلَاتِهِمْ، فَإِنَّ الضَّحِكَ وَالْحَدَثَ لَمْ يُوجَدَا مِنْهُمْ، فَلَوْ فَسَدَتْ صَلَاتُهُمْ إنَّمَا تَفْسُدُ بِفَسَادِ صَلَاةِ الْإِمَامِ، وَلَمْ تَفْسُدْ صَلَاةُ الْإِمَامِ هُنَا، فَهُوَ قِيَاسُ ضَحِكهِ بَعْدَ السَّلَامِ، وَلِأَنَّ الْإِمَامَ لَمَّا قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ فَقَدْ صَارَ الْمَسْبُوقُ فِي حُكْمِ الْمُنْفَرِدِ يَقُومُ لِإِتْمَامِ صَلَاتِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ سَلَامَ الْإِمَامِ وَكَلَامَهُ لَا يُؤَثِّرُ فِي حَقِّهِ وَلَا يَمْنَعُهُ مِنْ الْبِنَاءِ، فَكَذَلِكَ ضَحِكُ الْإِمَامِ وَحَدَثُهُ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ: مَا لَمْ يُسَلِّمْ الْإِمَامُ فَالْمَسْبُوقُ مُقْتَدٍ بِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ نَوَى الْإِمَامَةَ أَثَّرَ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْمَسْبُوقِ، وَأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ الْقِيَامِ حَتَّى يُسَلِّمَ الْإِمَامُ، وَالضَّحِكُ وَالْحَدَثُ إذَا لَاقَى جُزْءًا مِنْ الصَّلَاةِ كَانَ مُفْسِدًا لِذَلِكَ الْجُزْءِ، وَبِفَسَادِ ذَلِكَ الْجُزْءِ مِنْ صَلَاةِ الْإِمَامِ يَفْسُدُ مِثْلُهُ مِنْ صَلَاةِ الْمُقْتَدِي، إلَّا أَنَّ الْإِمَامَ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ الْبِنَاءُ بِفَسَادِ ذَلِكَ الْجُزْءِ وَلَا يَضُرُّهُ، وَالْمَسْبُوقُ قَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ الْبِنَاءُ فَفَسَادُ ذَلِكَ الْجُزْءِ يَمْنَعُهُ مِنْ بِنَاءِ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ فَيَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ ضَحِكَ بِنَفْسِهِ أَوْ أَحْدَثَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَزِمَهُ الِاسْتِقْبَالُ، فَكَذَلِكَ فِعْلُ الْإِمَامِ فِي حَقِّهِ بِخِلَافِ السَّلَامِ وَالْكَلَامِ، فَالسَّلَامُ مِنْهُ لِلصَّلَاةِ وَالْكَلَامُ قَاطِعٌ لَا مُفْسِدٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَفُوتُ بِهِ شَرْطُ الصَّلَاةِ، وَهُوَ الطَّهَارَةُ فَلَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْمَسْبُوقِ، فَأَمَّا الضَّحِكُ وَالْحَدَثُ مُفْسِدٌ لَا قَاطِعٌ؛ لِأَنَّهُ يَفُوتُ بِهِ شَرْطُ الصَّلَاةِ وَهُوَ الطَّهَارَةُ، وَلِهَذَا قِيلَ: لَوْ تَكَلَّمَ الْإِمَامُ بَعْدَ مَا قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ فَعَلَى الْقَوْمِ أَنْ يُسَلِّمُوا، وَلَوْ أَحْدَثَ الْإِمَامُ مُتَعَمِّدًا أَوْ قَهْقَهَ لَمْ يُسَلِّمْ الْقَوْمُ، وَخُرُوجُ الْإِمَامِ مِنْ الْمَسْجِدِ فِي كَوْنِهِ قَاطِعًا لِكَلَامِهِ فَلَا يُفْسِدُ صَلَاةَ الْمَسْبُوقِينَ قَالَ: (وَإِذَا افْتَتَحَ الرَّجُلُ صَلَاةَ الْمَكْتُوبَةِ فِي الْمَسْجِدِ وَحْدَهُ ثُمَّ أُقِيمَ لَهُ فِيهَا فَفِي ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ كَالظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ، إنْ كَانَ صَلَّى رَكْعَةً أَضَافَ إلَيْهَا أُخْرَى وَقَعَدَ وَسَلَّمَ ثُمَّ دَخَلَ مَعَ الْإِمَامِ)؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَطَعَهَا كَذَلِكَ كَانَ مُبْطِلًا عَمَلَهُ، فَإِنَّ الرَّكْعَةَ الْوَاحِدَةَ لَا تَكُونُ صَلَاةً فَيُضِيفُ إلَيْهَا رَكْعَةً أُخْرَى لِيَصِيرَ شَفْعًا ثُمَّ يُسَلِّمُ فَيَدْخُلُ مَعَ الْإِمَامِ لِإِحْرَازِ فَضِيلَةِ الْجَمَاعَةِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي الْجَمَاعَةِ تَزِيدُ عَلَى صَلَاةِ الْفَذِّ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً» (فَإِنْ قِيلَ:) كَيْفَ يَقْطَعُ فَرْضَهُ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهَا. ؟ (قُلْنَا:) لَا يَقْطَعُهَا رَافِضًا لَهَا، وَإِنَّمَا يَقْطَعُهَا لِيُعِيدَهَا عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ وَذَلِكَ جَائِزٌ كَمَا يَقْطَعُ الظُّهْرَ إذَا أُقِيمَتْ الْجُمُعَةُ، وَكَذَلِكَ إنْ قَامَ إلَى الثَّالِثَةِ وَلَمْ يُقَيِّدْهَا بِالسَّجْدَةِ عَادَ فَقَعَدَ وَسَلَّمَ لِكَيْ لَا تَفُوتَهُ فَضِيلَةُ الْجَمَاعَةِ وَلَا يُسَلِّمُ كَمَا هُوَ قَائِمًا؛ لِأَنَّ مَا أَتَى بِهِ مِنْ الْقِعْدَةِ كَانَ سُنَّةً، وَقِعْدَةُ الْخَتْمِ فَرْضٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ إلَى الْقِعْدَةِ ثُمَّ يُسَلِّمُ لِيَكُونَ مُتَنَفِّلًا بِرَكْعَتَيْنِ، فَإِنْ قَيَّدَ الثَّالِثَةَ بِالسَّجْدَةِ مَضَى فِي صَلَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِأَكْثَرِهَا وَلِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكَمَالِ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْهَا دَخَلَ مَعَ الْإِمَامِ فِي الظُّهْرِ وَالْعِشَاءِ بِنِيَّةِ النَّفْلِ؛ لِأَنَّ التَّنَفُّلَ بَعْدَهُمَا جَائِزٌ، وَلَوْ خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ رُبَّمَا تَوَهَّمَ أَنَّهُ مِمَّنْ لَا يَرَى الْجَمَاعَةَ، فَلِهَذَا دَخَلَ مَعَهُ، فَأَمَّا فِي الْعَصْرِ لَا يَدْخُلُ؛ لِأَنَّ التَّنَفُّلَ بَعْدَهُ مَكْرُوهٌ كَمَا بَيَّنَّا. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ يَدْخُلُ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي الصَّلَاةِ الَّتِي لَهَا سَبَبٌ، فَإِذَا لَمْ يَدْخُلْ مَعَهُ خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّ فِي الْمُكْثِ تَطُولُ مُخَالَفَتُهُ لِلْإِمَامِ، وَفِي الْخُرُوجِ إنَّمَا يُظْهِرُ مُخَالَفَتَهُ فِي لَحْظَةٍ فَهُوَ أَوْلَى، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ إذَا كَانَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى وَلَمْ يُقَيِّدْهَا بِالسَّجْدَةِ كَيْفَ يَصْنَعُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَقْطَعُهَا لِيَدْخُلَ مَعَ الْإِمَامِ فَيُحْرِزَ بِهِ ثَوَابَ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ؛ لِأَنَّ مَا دُونَ الرَّكْعَةِ لَيْسَ لَهَا حُكْمُ الصَّلَاةِ حَتَّى إنَّ مَنْ حَلَفَ أَنْ لَا يُصَلِّيَ لَا يَحْنَثُ عَلَى مَا دُونَ الرَّكْعَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ مِنْ الرَّكْعَةِ الثَّالِثَةِ يَعُودُ إذَا لَمْ يُقَيِّدْهَا بِالسَّجْدَةِ فَكَذَلِكَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى يَقْطَعُهَا لِيَدْخُلَ مَعَ الْإِمَامِ، (فَأَمَّا فِي الْفَجْرِ، فَإِنْ كَانَ صَلَّى رَكْعَةً قَطَعَهَا)؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَدَّى رَكْعَةً أُخْرَى تَمَّ فَرْضُهُ وَفَاتَتْهُ الْجَمَاعَةُ، فَالْأَوْلَى أَنْ يَقْطَعَهَا لِيُعِيدَهَا عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ، (وَإِنْ كَانَ قَيَّدَ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ بِسَجْدَةٍ أَتَمَّهَا)؛ لِأَنَّهُ أَدَّى أَكْثَرَهَا ثُمَّ إنَّهُ لَا يَدْخُلُ مَعَ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مُتَنَفِّلًا بَعْدَ الْفَجْرِ وَذَلِكَ مَكْرُوهٌ، وَاَلَّذِي رُوِيَ مِنْ حَالِ الرَّجُلَيْنِ حِينَ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَسْجِدِ الْخَيْفِ صَلَاةَ الْفَجْرِ كَمَا رَوَيْنَا، فَقَدْ ذَكَرَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْإِمْلَاءِ أَنَّ تِلْكَ الْحَادِثَةَ كَانَتْ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ، وَلَئِنْ كَانَتْ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ فَقَدْ كَانَ فِي وَقْتٍ لَمْ يَنْهَهُمْ عَنْ صَلَاةٍ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَجْرِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، ثُمَّ انْتَسَخَ بِالنَّهْيِ، (وَأَمَّا الْمَغْرِبُ، فَإِنْ صَلَّى رَكْعَةً قَطَعَهَا)؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَضَافَ إلَيْهَا رَكْعَةً أُخْرَى كَانَ مُؤَدِّيًا أَكْثَرَ الصَّلَاةِ فَلَا يُمْكِنُهُ الْقَطْعُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَوْ قَطَعَ كَانَ مُتَنَفِّلًا بِرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْمَغْرِبِ وَذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، فَلِهَذَا قَطَعَ صَلَاتَهُ لِيُعِيدَهَا عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ، وَإِنْ كَانَ قَيَّدَ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ بِسَجْدَةٍ أَتَمَّ صَلَاتَهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَدَّى أَكْثَرَهَا ثُمَّ لَا يَدْخُلُ مَعَ الْإِمَامِ، وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا، وَإِنَّمَا لَا يَدْخُلُ لَا لِأَنَّ التَّنَفُّلَ بَعْدَ الْمَغْرِبِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَلَكِنْ لِأَنَّهُ لَوْ دَخَلَ مَعَهُ فَإِمَّا أَنْ يُسَلِّمَ مَعَهُ فَيَكُونُ مُتَنَفِّلًا بِثَلَاثِ رَكَعَاتٍ وَهُوَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ، أَوْ يُضِيفُ إلَيْهَا رَكْعَةً أُخْرَى فَيَكُونُ مُخَالِفًا لِإِمَامِهِ، فَلِهَذَا لَا يَدْخُلُ مَعَهُ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يَدْخُلُ مَعَهُ، فَإِذَا فَرَغَ الْإِمَامُ فَصَلَّى رَكْعَةً أُخْرَى لِيَصِيرَ شَفْعًا لَهُ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَقُومَ لِإِتْمَامِهِ بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ كَالْمَسْبُوقِ وَهُوَ بِالشُّرُوعِ قَدْ الْتَزَمَ ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ فَكَأَنَّهُ الْتَزَمَهَا بِالنَّذْرِ فَيَلْزَمُهُ أَرْبَعٌ، وَعِنْدَنَا إنْ دَخَلَ فَعَلَ كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَالَ بِشْرٌ الْمَرِيسِيُّ يُسَلِّمُ مَعَ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ هَذَا التَّغَيُّرَ كَانَ بِحُكْمِ الِاقْتِدَاءِ وَذَلِكَ جَائِزٌ كَالْمَسْبُوقِ يُدْرِكُ الْإِمَامَ فِي الْقَعْدَةِ يَقْعُدُ مَعَهُ وَابْتِدَاءُ الصَّلَاةِ لَا يَكُونُ بِالْقَعْدَةِ، وَجَازَ ذَلِكَ بِحُكْمِ الِاقْتِدَاءِ فَهَذَا مِثْلُهُ. قَالَ: (وَإِذَا صَلَّى الظُّهْرَ فِي بَيْتِهِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ثُمَّ صَلَّى الْجُمُعَةَ مَعَ الْإِمَامِ فَالْجُمُعَةُ فَرْضُهُ وَيَصِيرُ الظُّهْرُ تَطَوُّعًا لَهُ)؛ لِأَنَّ بِأَدَاءِ الظُّهْرِ مَا سَقَطَ عَنْهُ الْخِطَابُ بِالسَّعْيِ إلَى الْجُمُعَةِ، فَكَانَ فِي أَدَائِهَا مُفْتَرِضًا وَلَا يَجْتَمِعُ فَرْضَانِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، فَمِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِ الْجُمُعَةِ فَرْضًا لَهُ أَنْ يَنْقَلِبَ مَا قَبْلَهُ تَطَوُّعًا، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا صَلَّى الظُّهْرَ فِي بَيْتِهِ يَوْمَ الْخَمِيسِ ثُمَّ أَدْرَكَهَا بِالْجَمَاعَةِ فَصَلَّاهَا، فَالْأُولَى فَرْضٌ وَالثَّانِيَةُ تَطَوُّعٌ، بَعْدَ أَدَاءِ الْفَرْضِ هُوَ غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِشُهُودِ الْجَمَاعَةِ فِي تِلْكَ الصَّلَاةِ، فَإِنْ شَهِدَهَا كَانَ مُتَنَفِّلًا. يُوَضِّحُ الْفَرْقَ أَنَّ الْجُمُعَةَ أَقْوَى مِنْ الظُّهْرِ؛ لِأَنَّهَا تَسْتَدْعِي مِنْ الشَّرَائِطِ مَا لَا يَسْتَدْعِيهِ الظُّهْرُ، وَالضَّعِيفُ لَا يَظْهَرُ فِي مُقَابَلَةِ الْقَوِيِّ، وَإِذَا ظَهَرَ الْقَوِيُّ بِأَدَائِهِ لِإِسْقَاطِ فَرْضِ الْوَقْتِ بِهِ سَقَطَ اعْتِبَارُ الضَّعِيفِ وَكَانَ تَطَوُّعًا، فَأَمَّا الظُّهْرُ الْمُؤَدَّى فِي الْجَمَاعَةِ فِي حُكْمِ الْقُوَّةِ كَالْمُؤَدَّى فِي بَيْتِهِ، فَإِنَّ أَحَدَهُمَا يَسْتَدْعِي شَرْطًا لَا يَسْتَدْعِيهِ الْآخَرُ، فَإِذَا اسْتَوَيَا تَرَجَّحَ السَّابِقُ مِنْهُمَا لِإِسْقَاطِ فَرْضِ الْوَقْتِ بِهِ فَكَانَتْ الثَّانِيَةُ نَفْلًا. قَالَ: (وَإِذَا أَحْدَثَ الْإِمَامُ فَلَمْ يُقَدِّمْ أَحَدًا حَتَّى خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ، فَإِنَّ صَلَاةَ الْقَوْمِ فَاسِدَةٌ)؛ لِأَنَّهُمْ مُقْتَدُونَ فِيهَا وَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ إمَامٌ فِي مَكَانِهِ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ فِي الْكِتَابِ حَالَ الْإِمَامِ، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ صَلَاتَهُ تَفْسُدُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ بَعْدَ سَبْقِ الْحَدَثِ كَانَ الِاسْتِخْلَافُ لِيَصِيرَ هُوَ فِي حُكْمِ الْمُقْتَدَى بِهِ كَغَيْرِهِ فَبِتَرْكِ الِاسْتِخْلَافِ لَمَّا فَسَدَتْ صَلَاةُ الْقَوْمِ فَلَأَنْ تَفْسُدَ صَلَاتُهُ كَانَ أَوْلَى، وَذَكَرَ أَبُو عِصْمَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ صَلَاتَهُ لَا تَفْسُدُ؛ لِأَنَّهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ كَالْمُنْفَرِدِ، فَلَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ بِالْخُرُوجِ مِنْ الْمَسْجِدِ بَعْدَ سَبْقِ الْحَدَثِ، فَعَلَى مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَسَادُ صَلَاةِ الْقَوْمِ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ عَلَى فَسَادِ صَلَاةِ إمَامِهِمْ، وَعَلَى مَا ذَكَرَهُ أَبُو عِصْمَةَ وَهُوَ الْأَصَحُّ فَسَادُ صَلَاةِ الْقَوْمِ اسْتِحْسَانٌ فَكَانَ يَنْبَغِي فِي الْقِيَاسِ أَنْ لَا تَفْسُدَ، فَإِنَّ بَعْدَ حَدَثِ الْإِمَامِ بَقُوا مُقْتَدِينَ بِهِ حَتَّى لَوْ وَجَدَ الْمَاءَ فِي الْمَسْجِدِ فَتَوَضَّأَ وَعَادَ إلَى مَكَانِهِ وَأَتَمَّ بِهِمْ الصَّلَاةَ أَجْزَأَهُمْ، فَكَذَلِكَ بَعْدَ خُرُوجِهِ وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ، وَأُرَاهُ قَبِيحًا أَنْ يَكُونَ الْقَوْمُ فِي الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدٍ وَإِمَامُهُمْ فِي أَهْلِهِ، فَأَمَّا مَا دَامَ فِي الْمَسْجِدِ فَكَأَنَّهُ فِي الْمِحْرَابِ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ فِي كَوْنِهِ مَكَانَ الصَّلَاةِ كَبُقْعَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ مَا يُنَافِي الِاقْتِدَاءَ، فَأَمَّا بَعْدَ خُرُوجِهِ فَقَدْ صَارَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ مَا يُنَافِي الِاقْتِدَاءَ فَلِهَذَا فَسَدَتْ صَلَاتُهُمْ. قَالَ: (فَإِنْ قَدَّمُوا رَجُلًا قَبْلَ خُرُوجِ الْإِمَامِ مِنْ الْمَسْجِدِ فَصَلَاتُهُ وَصَلَاتُهُمْ تَامَّةٌ)؛ لِأَنَّ تَقْدِيمَ الْقَوْمِ إيَّاهُ كَاسْتِخْلَافِ الْإِمَامِ الْأَوَّلِ، أَلَا تَرَى أَنَّ فِي الْإِمَامَةِ الْعُظْمَى لَا فَرْقَ بَيْنَ اجْتِمَاعِ النَّاسِ عَلَى رَجُلٍ وَبَيْنَ اسْتِخْلَافِ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ. وَهَذَا؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ فِي الِاسْتِخْلَافِ يَنْظُرُ لَهُمْ فِي إصْلَاحِ صَلَاتِهِمْ فَيَكُونُ لَهُمْ أَنْ يَنْظُرُوا إلَى أَنْفُسِهِمْ أَيْضًا، فَإِنْ قَدَّمَ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْ الْقَوْمِ رَجُلًا فَسَدَتْ صَلَاتُهُمْ؛ لِأَنَّهَا اُفْتُتِحَتْ بِإِمَامٍ وَاحِدٍ فَلَا يَجُوزُ إتْمَامُهَا بِإِمَامَيْنِ، وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَجَازَ بِأَكْثَرَ مِنْ اثْنَيْنِ فَيَنْوِي كُلُّ وَاحِدٍ أَنْ يَؤُمَّ نَفْسَهُ، وَهَذَا إذَا اسْتَوَى الْفَرِيقَانِ فِي الْعَدَدِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ، فَأَمَّا إذَا اقْتَدَى جَمَاعَةٌ مِنْ الْقَوْمِ بِأَحَدِ الْإِمَامَيْنِ إلَّا رَجُلًا أَوْ رَجُلَيْنِ اقْتَدَيَا بِالثَّانِي فَصَلَاةُ مَنْ اقْتَدَى بِهِ الْجَمَاعَةُ صَحِيحَةٌ، وَصَلَاةُ الْآخَرَيْنِ فَاسِدَةٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَدُ اللَّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ فَمَنْ شَذَّ شَذَّ فِي النَّارِ»، وَقَالَ عُمَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الشُّورَى إنْ اتَّفَقُوا عَلَى شَيْءٍ وَخَالَفَهُمْ وَاحِدٌ فَاقْتُلُوهُ، فَأَمَّا إذَا اقْتَدَى بِكُلِّ إمَامٍ جَمَاعَةٌ وَأَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ أَكْثَرُ عَدَدًا مِنْ الْآخَرِ، فَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: صَلَاةُ الْأَكْثَرِينَ جَائِزَةٌ وَيَتَعَيَّنُ الْفَسَادُ فِي الْآخَرِينَ كَمَا فِي الْوَاحِدِ وَالْمَثْنَى، وَالْأَصَحُّ أَنْ تَفْسُدَ صَلَاةُ الْفَرِيقَيْنِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَمْعٌ تَامٌّ يَتِمُّ بِهِ نِصَابُ الْجُمُعَةِ فَيَكُونُ الْأَقَلُّ مُسَاوِيًا لِلْأَكْثَرِ حُكْمًا، كَالْمُدَّعِيَيْنِ يُقِيمُ أَحَدُهُمَا شَاهِدَيْنِ وَالْآخَرُ عَشَرَةً مِنْ الشُّهُودِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْإِمَامُ هُوَ الَّذِي قَدَّمَ رَجُلَيْنِ فَهَذَا وَتَقْدِيمُ الْقَوْمِ إيَّاهُمَا سَوَاءٌ، وَإِنْ وَصَلَ أَحَدُهُمَا إلَى مَوْضِعِ الْإِمَامَةِ قَبْلَ الْآخَرِ تَعَيَّنَ لِلْإِمَامَةِ وَجَازَ صَلَاتُهُ وَصَلَاةُ مَنْ اقْتَدَى بِهِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِخْلَافَ كَانَ لِلضَّرُورَةِ وَقَدْ ارْتَفَعَتْ بِوُصُولِهِ إلَى مَوْضِعِ الْإِمَامَةِ، فَاسْتِخْلَافُ الْآخَرِ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ. قَالَ: (وَإِنْ أَحْدَثَ الْإِمَامُ وَلَمْ يَكُنْ خَلْفَهُ إلَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ صَارَ هُوَ إمَامًا قَدَّمَهُ الْإِمَامُ أَوْ لَمْ يُقَدِّمْهُ نَوَى هُوَ الْإِمَامَةَ أَوْ لَمْ يَنْوِ)؛ لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ لِلِاسْتِخْلَافِ، فَإِنَّ صَلَاحِيَّتَهُ لِلِاسْتِخْلَافِ بِكَوْنِهِ شَرِيكَ الْإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ وَلَا مُزَاحِمَ لَهُ وَالْحَاجَةُ فِي هَذَا إلَى الِاسْتِخْلَافِ أَوْ النِّيَّةِ لِلتَّمْيِيزِ، وَذَلِكَ عِنْدَ الْمُزَاحَمَةِ لَا عِنْدَ التَّعَيُّنِ، فَإِذَا تَوَضَّأَ الْإِمَامُ رَجَعَ وَدَخَلَ مَعَ هَذَا فِي صَلَاتِهِ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَةَ تَحَوَّلَتْ إلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَرْجِعْ الْإِمَامُ حَتَّى أَحْدَثَ هَذَا فَخَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ فَسَدَتْ صَلَاةُ الْإِمَامِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمُقْتَدِي بِهِ وَلَمْ يَبْقَ لَهُ إمَامٌ فِي الْمَسْجِدِ، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ حَتَّى رَجَعَ الْأَوَّلُ ثُمَّ خَرَجَ الثَّانِي فَقَدْ صَارَ الْإِمَامُ هُوَ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَيِّنٌ لِإِصْلَاحِ الصَّلَاةِ، وَإِنْ جَاءَ ثَالِثٌ وَاقْتَدَى بِالثَّانِي ثُمَّ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فَخَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ تَحَوَّلَتْ الْإِمَامَةُ إلَى الثَّالِثِ لِكَوْنِهِ مُتَعَيِّنًا، فَإِنْ أَحْدَثَ فَخَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ قَبْلَ رُجُوعِ أَحَدِ الْأَوَّلَيْنِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُمَا إمَامٌ فِي الْمَسْجِدِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ رَجَعَ أَحَدُ الْأَوَّلَيْنِ قَبْلَ خُرُوجِ الثَّالِثِ تَحَوَّلَتْ الْإِمَامَةُ إلَيْهِ بِخُرُوجِ الثَّالِثِ، فَإِنْ كَانَا رَجَعَا جَمِيعًا، فَإِنْ اسْتَخْلَفَ الثَّالِثُ أَحَدَهُمَا صَارَ هُوَ الْإِمَامُ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَخْلِفْ حَتَّى خَرَجَ فَسَدَتْ صَلَاتُهُمَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى بِالْإِمَامَةِ مِنْ الْآخَرِ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- إذَا أَحْدَثَ وَلَيْسَ مَعَهُ إلَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ فَوَجَدَ الْمَاءَ فِي الْمَسْجِدِ فَتَوَضَّأَ، قَالَ: يُتِمُّ صَلَاتَهُ مُقْتَدِيًا بِالثَّانِي؛ لِأَنَّهُ مُتَعَيِّنٌ لِلْإِمَامَةِ فَبِنَفْسِ انْصِرَافِهِ تَتَحَوَّلُ الْإِمَامَةُ إلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ جَمَاعَةٌ فَتَوَضَّأَ فِي الْمَسْجِدِ عَادَ إلَى مَكَانِ الْإِمَامَةِ وَصَلَّى بِهِمْ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَةَ لَمْ تَتَحَوَّلْ مِنْهُ إلَى غَيْرِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ إلَّا بِالِاسْتِخْلَافِ وَلَمْ يُوجَدْ. قَالَ: (إمَامٌ أَحْدَثَ فَانْفَتَلَ وَقَدَّمَ رَجُلًا جَاءَ سَاعَتئِذٍ، فَإِنْ كَانَ كَبَّرَ قَبْلَ الْحَدَثِ مِنْ الْإِمَامِ صَحَّ اسْتِخْلَافُهُ)؛ لِأَنَّهُ شَرِيكُ الْإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَبَّرَ فَلَمَّا اسْتَخْلَفَهُ كَبَّرَ يَنْوِي الِاقْتِدَاءَ بِهِ صَحَّ الِاسْتِخْلَافُ أَيْضًا إلَّا عَلَى قَوْلِ بِشْرٍ، فَإِنَّهُ يَقُولُ لَا يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُ بِالْإِمَامِ؛ لِأَنَّ حَدَثَ الْإِمَامِ فِي حَقِّ الْمُقْتَدِي كَحَدَثِهِ بِنَفْسِهِ، وَكَوْنُهُ مُحْدِثًا يَمْنَعُ الشُّرُوعَ فِي الصَّلَاةِ ابْتِدَاءً فَيُمْنَعُ مِنْ الِاقْتِدَاءِ بِهِ أَيْضًا، فَإِنَّ بَقَاءَ الِاقْتِدَاءِ بَعْدَ الْحَدَثِ عَرَفْنَاهُ بِالسُّنَّةِ، وَالِابْتِدَاءُ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْبَقَاءِ وَلَكِنَّا نَقُولُ: التَّحْرِيمَةُ فِي حَقِّ الْإِمَامِ بَاقِيَةٌ حَتَّى إذَا عَادَ بَنَى عَلَى صَلَاتِهِ، وَكَذَلِكَ صِفَةُ الْإِمَامَةِ لَهُ مَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْ الْمَسْجِدِ حَتَّى لَوْ تَوَضَّأَ فِي الْمَسْجِدِ وَعَادَ إلَى مَكَانِ الْإِمَامَةِ جَازَ، فَاقْتِدَاءُ الْغَيْرِ بِهِ صَحِيحٌ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَإِذَا صَحَّ الِاقْتِدَاءُ جَازَ اسْتِخْلَافُهُ، وَإِنْ كَانَ حِينَ كَبَّرَ نَوَى أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمْ صَلَاةً مُسْتَقْبَلَةً وَلَمْ يَنْوِ الِاقْتِدَاءَ بِالْأَوَّلِ فَصَلَاتُهُ تَامَّةٌ؛ لِأَنَّهُ افْتَتَحَهَا مُنْفَرِدًا بِهَا وَقَدْ أَدَّاهَا وَصَلَاةُ الْقَوْمِ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُقْتَدِينَ بِالْأَوَّلِ فَلَا يُمْكِنُهُمْ إتْمَامُهَا مُقْتَدِينَ بِالثَّانِي، فَإِنَّ الصَّلَاةَ الْوَاحِدَةَ لَا تُؤَدَّى بِإِمَامَيْنِ، بِخِلَافِ خَلِيفَةِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَهُ فَكَأَنَّهُ هُوَ بِعَيْنِهِ، فَكَانَ الْإِمَامُ وَاحِدًا مَعْنًى، وَإِنْ كَانَ مَثْنَى فِي الصُّورَةِ، وَهُنَا الثَّانِي لَيْسَ بِخَلِيفَةِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُقَيَّدْ بِهِ قَطُّ فَتَحَقَّقَ أَدَاءُ الصَّلَاةِ الْوَاحِدَةِ خَلْفَ إمَامَيْنِ صُورَةً وَمَعْنًى، فَلِهَذَا لَا يُجْزِئُهُمْ. قَالَ: (إمَامٌ أَحْدَثَ وَهُوَ مُسَافِرٌ وَخَلْفَهُ مُقِيمُونَ وَمُسَافِرُونَ فَقَدَّمَ مُقِيمًا صَحَّ ذَلِكَ)؛ لِأَنَّ الْمُقِيمَ شَرِيكُهُ فِي الصَّلَاةِ وَلَا يَتَغَيَّرُ بِهِ فَرْضُ الْمُسَافِرِينَ، بِخِلَافِ مَا لَوْ نَوَى الْأَوَّلُ الْإِقَامَةَ؛ لِأَنَّهُمْ لَمَّا قَصَدُوا الِاقْتِدَاءَ بِالْأَوَّلِ فَقَدْ أَلْزَمُوا أَنْفُسَهُمْ حُكْمَ الِاقْتِدَاءِ، وَمَا قَصَدُوا الِاقْتِدَاءَ بِالثَّانِي إنَّمَا لَزِمَهُمْ الِاقْتِدَاءُ لِضَرُورَةِ الْحَاجَةِ إلَى إصْلَاحِ صَلَاتِهِمْ، وَالثَّابِتُ بِالضَّرُورَةِ لَا يَعْدُو مَوْضِعَ الضَّرُورَةِ، وَعَلَى هَذَا قُلْنَا: لَوْ قَدَّمَ مُسَافِرًا فَنَوَى الثَّانِي الْإِقَامَةَ لَا يَتَغَيَّرُ فَرْضُ الْمُسَافِرِينَ ثُمَّ عَلَى الثَّانِي أَنْ يُتِمَّ بِهِمْ صَلَاةَ الْمُسَافِرِينَ؛ لِأَنَّهُ خَلِيفَةُ الْأَوَّلِ فَيَأْتِي بِمَا كَانَ عَلَى الْأَوَّلِ، فَإِذَا قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ قَدَّمَ مُسَافِرًا لِيُسَلِّمَ بِهِمْ؛ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ التَّسْلِيمِ بِنَفْسِهِ لِبَقَاءِ الْبِنَاءِ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَقُومُ هُوَ مَعَ الْمُقِيمِينَ فَيُتِمُّونَ صَلَاتَهُمْ وُحْدَانًا، هَكَذَا «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ صَلَّى بِعَرَفَاتٍ: أَتِمُّوا يَا أَهْلَ مَكَّةَ صَلَاتَكُمْ، فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ» فَإِنْ اقْتَدَوْا فِيمَا يَقْضُونَ فَسَدَتْ صَلَاتُهُمْ؛ لِأَنَّ الِاقْتِدَاءَ فِي مَوْضِعٍ يَحِقُّ فِيهِ الِانْفِرَادُ كَالِانْفِرَادِ فِي مَوْضِعٍ يَحِقُّ فِيهِ الِاقْتِدَاءُ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْمُخَالَفَةِ فِي الْحُكْمِ، وَإِنْ مَضَى الْإِمَامُ الثَّانِي فِي صَلَاتِهِ حَتَّى أَتَمَّهَا صَلَاةَ الْإِقَامَةِ وَالْقَوْمُ مَعَهُ، فَإِنْ قَعَدَ فِي الثَّانِيَةِ قَدْرَ التَّشَهُّدِ فَصَلَاتُهُ وَصَلَاةُ الْمُسَافِرِينَ تَامَّةٌ؛ لِأَنَّهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ مُنْفَرِدٌ لَا تَتَعَلَّقُ صَلَاتُهُ بِصَلَاةِ غَيْرِهِ، وَالْمُسَافِرُونَ إنَّمَا اشْتَغَلُوا بِالنَّفْلِ بَعْدَ إكْمَالِ الْفَرْضِ فَلَا يَضُرُّهُمْ، فَأَمَّا صَلَاةُ الْمُقِيمِينَ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِمْ الِانْفِرَادَ فِي الْأُخْرَيَيْنِ، فَإِذَا اقْتَدَوْا بِهِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُمْ، فَإِنْ لَمْ يَقْعُدْ الثَّانِي فِي الرَّكْعَتَيْنِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَصَلَاةُ الْقَوْمِ كُلِّهِمْ؛ لِأَنَّهُ خَلِيفَةُ الْأَوَّلِ فَيُفْتَرَضُ عَلَيْهِ مَا عَلَى الْأَوَّلِ، وَالْأَوَّلُ لَوْ تَرَكَ الْقَعْدَةَ الْأُولَى فَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَصَلَاةُ الْقَوْمِ، فَكَذَلِكَ الثَّانِي إذَا تَرَكَهَا فَتَفْسُدُ بِهِ صَلَاةُ الْإِمَامِ الْأَوَّلِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ كَغَيْرِهِ مِنْ الْمُقْتَدِينَ بِهِ. قَالَ: (إمَامٌ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ فَرَكَعَ قَبْلَ أَنْ يَقْرَأَ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَرَأَ وَرَكَعَ وَسَجَدَ وَأَدْرَكَ مَعَهُ رَجُلٌ هَذَا الرُّكُوعَ الثَّانِي فَهُوَ مُدْرِكٌ لِلرَّكْعَةِ)؛ لِأَنَّ الرُّكُوعَ الْأَوَّلَ انْتَقَضَ بِالثَّانِي، فَإِنَّ الْأَوَّلَ سَبَقَ أَوَانَهُ؛ لِأَنَّ أَوَانَ الرُّكُوعِ بَعْدَ الْقِرَاءَةِ فَمَا سَبَقَهُ كَانَ مُنْتَقِضًا، وَالرُّكُوعُ الثَّانِي حَصَلَ فِي أَوَانِهِ فَهُوَ الْمُعْتَدُّ بِهِ، وَقَدْ أَدْرَكَهُ الرَّجُلُ، وَإِنْ كَانَ قَرَأَ قَبْلَ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ فَالرُّكُوعُ هُوَ الْأَوَّلُ، وَمَنْ أَدْرَكَ الرُّكُوعَ الثَّانِي لَا يَصِيرُ بِهِ مُدْرِكًا لِلرَّكْعَةِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ حَصَلَ فِي أَوَانِهِ فَهُوَ الْمُعْتَدُّ بِهِ، وَالثَّانِي وَقَعَ مُكَرَّرًا وَلَا تَكْرَارَ فِي الرُّكُوعِ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ، فَالْمُنْتَقَضُ مَا وَقَعَ مُكَرَّرًا، وَذَكَرَ فِي بَابِ السَّهْوِ فِي نَوَادِرِ أَبِي سُلَيْمَانَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الرُّكُوعُ الثَّانِي وَمُدْرِكُهُ مُدْرِكٌ لِلرَّكْعَةِ، وَوَجْهُهُ أَنَّ اعْتِبَارَ الرُّكُوعِ بِاتِّصَالِ السُّجُودِ بِهِ، وَإِنَّمَا اتَّصَلَ السُّجُودُ بِالرُّكُوعِ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ، فَكَانَ الْمُنْتَقِضُ هُوَ الْأَوَّلُ، وَالْأَصَحُّ مَا ذَكَرَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ أَنَّ الْفَرْضَ بِالرُّكُوعِ الْأَوَّلِ صَارَ مُؤَدَّى، فَيَقِفُ يَنْتَظِرُ السُّجُودَ فَيَجْعَلُ السُّجُودَ مُتَّصِلًا بِهِ حُكْمًا، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْإِمَامُ أَحْدَثَ حِينَ فَرَغَ مِنْ الرُّكُوعِ وَاسْتَخْلَفَ رَجُلًا، فَإِنَّ الْخَلِيفَةَ يَعْتَدُّ بِذَلِكَ الرُّكُوعِ إنْ كَانَ الْإِمَامُ قَرَأَ قَبْلَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَرَأَ قَبْلَهُ لَمْ يَعْتَدَّ بِهِ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْأَوَّلِ، فَحَالُهُ فِي هَذَا كَحَالِ الْأَوَّلِ. قَالَ: (إمَامٌ أَحْدَثَ فَقَدَّمَ رَجُلًا عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ فَصَلَاتُهُ وَصَلَاةُ الْقَوْمِ فَاسِدَةٌ)؛ لِأَنَّ الْمُحْدِثَ لَا يَصْلُحُ لِلِاسْتِخْلَافِ فَاشْتِغَالُهُ بِاسْتِخْلَافِ مَنْ لَا يَصْلُحُ خَلِيفَةً لَهُ إعْرَاضٌ مِنْهُ عَنْ صَلَاتِهِ فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ وَصَلَاةُ الْقَوْمِ وَهَذَا عِنْدَنَا، فَإِنَّ حَدَثَ الْإِمَامِ إذَا تَبَيَّنَ لِلْقَوْمِ بَعْدَ الْفَرَاغِ فَصَلَاتُهُمْ فَاسِدَةٌ، فَكَذَلِكَ فِي حَالَةِ الِاسْتِخْلَافِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إذَا اقْتَدَوْا بِهِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ مُحْدِثٌ لَا يَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ بِهِ، وَإِذَا لَمْ يَعْلَمُوا بِهِ فَصَلَاتُهُمْ تَامَّةٌ فِي حَالَةِ الِاسْتِخْلَافِ، وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثٍ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ أَمَّ فِي صَلَاةٍ أَصْحَابَهُ ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُ كَانَ جُنُبًا فَأَعَادَ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْإِعَادَةِ. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ أَمَّ قَوْمًا ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُ كَانَ مُحْدِثًا أَوْ جُنُبًا أَعَادَ صَلَاتَهُ وَأَعَادُوا» وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ حَتَّى ذَكَرَ أَبُو يُوسُفَ فِي الْأَمَالِي أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ صَلَّى بِأَصْحَابِهِ يَوْمًا ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ جُنُبًا، فَأَمَرَ مُؤَذِّنَهُ ابْنَ التَّيَّاحِ أَنْ يُنَادِيَ، أَلَا إنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ كَانَ جُنُبًا فَأَعِيدُوا صَلَاتَكُمْ، وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ عُمَرَ مَا ذَكَرَهُ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ رَأَى أَثَرَ الِاحْتِلَامِ فِي ثَوْبِهِ بَعْدَ الْفَرَاغِ، وَلَمْ يَعْلَمْ مَتَى أَصَابَهُ فَأَعَادَ صَلَاتَهُ احْتِيَاطًا، وَعِنْدَنَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَا يَجِبُ عَلَى الْقَوْمِ إعَادَةُ الصَّلَاةِ. وَكَذَلِكَ لَوْ قَدَّمَ الْإِمَامُ الْمُحْدِثُ صَبِيًّا فَسَدَتْ صَلَاتُهُمْ وَصَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ صَلَاةَ الصَّبِيِّ تَخَلُّقٌ وَاعْتِيَادٌ أَوْ نَافِلَةٌ فَلَا يَصْلُحُ هُوَ خَلِيفَةً لِلْإِمَامِ فِي الْفَرْضِ، كَمَا لَا يَصْلُحُ لِلْإِمَامَةِ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ أَصْلًا بِنَفْسِهِ، وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى أَصْلِنَا أَيْضًا، فَأَمَّا الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، فَإِنَّهُ يُجَوِّزُ الِاقْتِدَاءَ بِالصَّبِيِّ فِي الْمَكْتُوبَةِ، وَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى اقْتِدَاءِ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ وَقَدْ مَرَّ. وَأَمَّا الِاقْتِدَاءُ بِالصَّبِيِّ فِي التَّطَوُّعِ فَقَدْ جَوَّزَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ الرَّازِيّ لِلْحَاجَةِ إلَيْهِ وَالْأَصَحُّ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ نَفْلَ الصَّبِيِّ دُونَ نَفْلِ الْبَالِغِ حَتَّى لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ بِالْإِفْسَادِ، وَبِنَاءُ الْقَوِيِّ عَلَى الضَّعِيفِ لَا يَجُوزُ، كَيْفَ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْإِمَامُ ضَامِنٌ وَالصَّبِيُّ لَا يَصْلُحُ ضَامِنًا لِفَلْسٍ» فَكَيْفَ يَصِحُّ مِنْهُ الضَّمَانُ لِصَلَاةِ الْمُقْتَدِي. وَكَذَلِكَ إنْ قَدَّمَ الْإِمَامُ الْمُحْدِثُ امْرَأَةً فَصَلَاتُهُ وَصَلَاتُهَا وَصَلَاةُ الْقَوْمِ كُلُّهُمْ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَصْلُحُ لِإِمَامَةِ الرِّجَالِ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَخِّرُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَخَّرَهُنَّ اللَّهُ» فَاشْتِغَالُهُ بِاسْتِخْلَافِ مَنْ لَا يَصْلُحُ خَلِيفَةً لَهُ إعْرَاضٌ مِنْهُ عَنْ الصَّلَاةِ، فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ وَبِفَسَادِ صَلَاتِهِ تَفْسُدُ صَلَاةُ الْقَوْمِ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَةَ لَمْ تَتَحَوَّلْ مِنْهُ إلَى غَيْرِهِ، وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى صَلَاةُ النِّسَاءِ صَحِيحَةٌ إنَّمَا تَفْسُدُ صَلَاةُ الرِّجَالِ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَصْلُحُ لِإِمَامَةِ النِّسَاءِ إنَّمَا لَا تَصْلُحُ لِإِمَامَةِ الرِّجَالِ، وَفِيمَا ذَكَرْنَا الْجَوَابُ عَنْ كَلَامِهِ. قَالَ: (أُمِّيٌّ صَلَّى بِقَوْمٍ أُمِّيِّينَ وَقَارِئِينَ فَصَلَاةُ الْإِمَامِ وَالْقَوْمِ كُلِّهِمْ فَاسِدَةٌ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- صَلَاةُ الْإِمَامِ وَالْأُمِّيِّينَ تَامَّةٌ؛ لِأَنَّ الْأُمِّيَّ صَاحِبُ عُذْرٍ، فَإِذَا اقْتَدَى بِهِ مَنْ هُوَ فِي مِثْلِ حَالِهِ وَمَنْ لَا عُذْرَ بِهِ جَازَتْ صَلَاتُهُ وَصَلَاةُ مَنْ هُوَ فِي مِثْلِ حَالِهِ، كَالْعَارِي يَؤُمُّ الْعُرَاةَ وَاللَّابِسِينَ، وَالْمُومِي يَؤُمَّ مَنْ يُصَلِّي بِالْإِيمَاءِ وَمَنْ يُصَلِّي بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَصَاحِبُ الْجُرْحِ السَّائِلِ يَؤُمُّ مَنْ هُوَ فِي مِثْلِ حَالِهِ وَالْأَصِحَّاءَ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى طَرِيقَانِ: (أَحَدُهُمَا) أَنَّهُ لَمَّا جَاءُوا مُجْتَمِعِينَ لِأَدَاءِ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ بِالْجَمَاعَةِ فَالْأُمِّيُّ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَجْعَلَ صَلَاتَهُ بِالْقِرَاءَةِ بِأَنْ يُقَدِّمَ الْقَارِئَ، فَتَكُونُ قِرَاءَةُ إمَامِهِ قِرَاءَةٌ لَهُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَ لَهُ إمَامٌ فَقِرَاءَةُ الْإِمَامِ لَهُ قِرَاءَةٌ»، فَإِذَا تَقَدَّمَ بِنَفْسِهِ فَقَدْ تَرَكَ أَدَاءَ الصَّلَاةِ بِالْقِرَاءَةِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ بِنَفْسِهِ، فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ وَصَلَاةُ الْقَوْمِ أَيْضًا، بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَعْذَارِ فَلُبْسُ الْإِمَامِ لَا يَكُونُ لُبْسًا لِلْمُقْتَدِينَ، وَالرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ مِنْ الْإِمَامِ لَا يَنُوبُ عَنْ الْمُقْتَدِي، وَوُضُوءُ الْإِمَامِ لَا يَكُونُ وُضُوءًا لِلْمُقْتَدِي فَهُوَ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى إزَالَةِ هَذَا الْعُذْرِ بِتَقْدِيمِ مَنْ لَا عُذْرَ لَهُ (فَإِنْ قِيلَ:) لَوْ كَانَ الْإِمَامُ يُصَلِّي وَحْدَهُ وَهُنَاكَ قَارِئٌ يُصَلِّي بِتِلْكَ الصَّلَاةِ جَازَتْ صَلَاةُ الْأُمِّيِّ وَلَمْ يُنْظَرْ إلَى قُدْرَتِهِ عَلَى أَنْ يَجْعَلَ صَلَاتَهُ بِقِرَاءَةٍ بِالِاقْتِدَاءِ بِالْقَارِئِ (قُلْنَا:) ذَكَرَ أَبُو حَازِمٍ أَنَّ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَبَعْدَ التَّسْلِيمِ قُلْنَا: لَمْ يَظْهَرْ هُنَاكَ مِنْ الْقَارِئِ رَغْبَةٌ فِي أَدَاءِ الصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ فَلَا يُعْتَبَرُ وُجُودُهُ فِي حَقِّ الْأُمِّيِّ، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ. (وَالطَّرِيقُ الثَّانِي) أَنَّ افْتِتَاحَ الْكُلِّ لِلصَّلَاةِ قَدْ صَحَّ؛ لِأَنَّهُ أَوَانُ التَّكْبِيرِ، فَالْأُمِّيُّ قَادِرٌ عَلَيْهِ كَالْقَارِئِ فَبِصِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ صَارَ الْأُمِّيُّ مُتَحَمِّلًا فَرْضَ الْقِرَاءَةِ عَنْ الْقَارِئِ، ثُمَّ جَاءَ أَوَانُ الْقِرَاءَةِ وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ الْوَفَاءِ بِمَا تَحَمَّلَ فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ، وَبِفَسَادِ صَلَاتِهِ تَفْسُدُ صَلَاةُ الْقَوْمِ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَعْذَارِ، فَإِنَّهَا قَائِمَةٌ عِنْدَ الِافْتِتَاحِ فَلَا يَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ مِمَّنْ لَا عُذْرَ لَهُ بِصَاحِبِ الْعُذْرِ ابْتِدَاءً (فَإِنْ قِيلَ:) لَوْ اقْتَدَى الْقَارِئُ بِالْأُمِّيِّ بِنِيَّةِ النَّفْلِ لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ، وَلَوْ صَحَّ شُرُوعُهُ فِي الِابْتِدَاءِ لَلَزِمَهُ الْقَضَاءُ (قُلْنَا:) إنَّمَا لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ؛ لِأَنَّهُ صَارَ شَارِعًا فِي صَلَاةٍ لَا قِرَاءَةَ فِيهَا وَالشُّرُوعُ كَالنَّذْرِ، وَلَوْ نَذَرَ صَلَاةً بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَكَذَلِكَ إذَا شَرَعَ فِيهَا. قَالَ: (أُمِّيٌّ تَعَلَّمَ سُورَةً وَقَدْ صَلَّى بَعْضَ صَلَاتِهِ فَقَرَأَهَا فِيمَا بَقِيَ فَصَلَاتُهُ فَاسِدَةٌ مِثْلُ الْآخَرِينَ) لِزَوَالِ أُمِّيَّتِهِ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ قَارِئًا فِي الِابْتِدَاءَ فَصَلَّى بَعْضَ الصَّلَاةِ بِقِرَاءَةٍ ثُمَّ نَسِيَ فَصَارَ أُمِّيًّا فَصَلَاتُهُ فَاسِدَةٌ مِثْلُ الْآخَرِينَ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا تَفْسُدُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ جَمِيعًا، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إذَا تَعَلَّمَ السُّورَةَ اسْتَقْبَلَ، وَإِذَا نَسِيَ بَنَى اسْتِحْسَانًا لِزُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، إذْ فَرْضُ الْقِرَاءَةِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَارِئَ لَوْ تَرَكَ الْقِرَاءَةَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ وَقَدْ قَرَأَ الْأُخْرَيَيْنِ أَجْزَأَهُ، فَإِذَا كَانَ قَارِئًا فِي الِابْتِدَاءِ فَقَدْ أَدَّى فَرْضَ الْقِرَاءَةِ فِي الْأُولَيَيْنِ فَعَجْزُهُ عَنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَضُرُّهُ كَتَرْكِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ، وَإِذَا تَعَلَّمَ السُّورَةَ وَقَرَأَ فِي الْأُخْرَيَيْنِ فَقَدْ أَدَّى فَرْضَ الْقِرَاءَةِ فَلَا يَضُرُّهُ عَجْزُهُ عَنْهُ فِي الِابْتِدَاءِ كَمَا لَا يَضُرُّهُ تَرْكُهُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- قَالَا: إذَا تَعَلَّمَ السُّورَةَ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ فَلَوْ اسْتَقْبَلَهَا كَانَ مُؤَدِّيًا لَهَا عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ فَأَمَرْنَاهُ بِالِاسْتِقْبَالِ، فَأَمَّا إذَا نَسِيَ الْقِرَاءَةَ فَلَوْ أَمَرْنَاهُ بِالِاسْتِقْبَالِ كَانَ مُؤَدِّيًا جَمِيعَ الصَّلَاةِ بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ، فَالْأَوْلَى هُوَ الْبِنَاءُ لِيَكُونَ مُؤَدِّيًا بَعْضَهَا بِقِرَاءَةٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ حِينَ افْتَتَحَهَا وَهُوَ أُمِّيٌّ، فَقَدْ انْعَقَدَتْ صَلَاتُهُ بِصِفَةِ الضَّعْفِ، فَحِينَ تَعَلَّمَ السُّورَةَ فَقَدْ قَوِيَ حَالُهُ، وَبِنَاءُ الْقَوِيِّ عَلَى الضَّعِيفِ لَا يَجُوزُ كَالْعَارِي إذَا وَجَدَ الثَّوْبَ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ، وَكَالْمُتَيَمِّمِ إذَا وَجَدَ الْمَاءَ فِي خِلَالِهَا، وَإِذَا كَانَ قَارِئًا فِي الِابْتِدَاءِ فَقَدْ الْتَزَمَ أَدَاءَ جَمِيعِ الصَّلَاةِ بِقِرَاءَةٍ ثُمَّ عَجَزَ عَنْ الْوَفَاءِ بِمَا الْتَزَمَ فَكَانَ عَلَيْهِ الِاسْتِقْبَالُ فِي الْفَصْلَيْنِ، هَذَا وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْإِمَامُ قَارِئًا فَقَرَأَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ ثُمَّ أَحْدَثَ فَاسْتَخْلَفَ أُمِّيًّا فَسَدَتْ صَلَاتُهُمْ إلَّا عَلَى قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، فَإِنَّهُ يَقُولُ: الْإِمَامُ الْأَوَّلُ أَدَّى فَرْضَ الْقِرَاءَةِ وَلَيْسَ فِي الْأُخْرَيَيْنِ قِرَاءَةٌ، فَاسْتِخْلَافُ الْقَارِئِ وَالْأُمِّيِّ فِيهِ سَوَاءٌ. (وَلَنَا) أَنَّ الْقِرَاءَةَ فَرْضٌ فِي جَمِيعِ الصَّلَاةِ تُؤَدَّى فِي مَوْضِعٍ مَخْصُوصٍ، فَإِذَا كَانَ الْإِمَامُ قَارِئًا فَقَدْ الْتَزَمَ أَدَاءَ جَمِيعِ الصَّلَاةِ بِقِرَاءَةٍ، وَالْأُمِّيُّ عَاجِزٌ عَنْ ذَلِكَ فَلَا يَصْلُحُ خَلِيفَةً لَهُ، وَاشْتِغَالُهُ بِاسْتِخْلَافِ مَنْ لَا يَصْلُحُ خَلِيفَةً لَهُ يُفْسِدُ صَلَاتَهُ، كَمَا لَوْ اسْتَخْلَفَ صَبِيًّا أَوْ امْرَأَةً، وَعَلَى هَذَا لَوْ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ آخِرِ السَّجْدَةِ ثُمَّ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فَاسْتَخْلَفَ أُمِّيًّا فَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَصَلَاةُ الْقَوْمِ عِنْدَنَا، فَأَمَّا إذَا قَعَدَ قَدْرَ التَّشَهُّدِ ثُمَّ أَحْدَثَ فَاسْتَخْلَفَ أُمِّيًّا فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الْمَعْرُوفِ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَصَاحِبَيْهِ. قَالَ: (أُمِّيٌّ اقْتَدَى بِقَارِئٍ بَعْدَ مَا صَلَّى رَكْعَةً فَلَمَّا فَرَغَ الْإِمَامُ قَامَ الْأُمِّيُّ لِإِتْمَامِ صَلَاتِهِ فَصَلَاتُهُ فَاسِدَةٌ فِي الْقِيَاسِ) وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يُجْزِئُهُ وَهُوَ قَوْلُهُمَا. وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ بِالِاقْتِدَاءِ بِالْقَارِئِ قَدْ الْتَزَمَ أَدَاءَ هَذِهِ الصَّلَاةِ بِقِرَاءَةٍ وَقَدْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ حِينَ قَامَ لِلْقَضَاءِ؛ لِأَنَّهُ مُنْفَرِدٌ فِيمَا يَقْضِي، فَلَا تَكُونُ قِرَاءَةُ الْإِمَامِ لَهُ قِرَاءَةً فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ إنَّمَا يَلْتَزِمُ الْقِرَاءَةَ ضِمْنًا لِلِاقْتِدَاءِ وَهُوَ مُقْتَدٍ فِيمَا بَقِيَ عَلَى الْإِمَامِ لَا فِيمَا سَبَقَهُ بِهِ الْإِمَامُ، يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ لَوْ بَنَى كَانَ مُؤَدِّيًا بَعْضَ الصَّلَاةِ بِالْقِرَاءَةِ، وَلَوْ اسْتَقْبَلَ كَانَ مُؤَدِّيًا جَمِيعَهَا بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ، وَأَدَاءُ الْبَعْضِ مَعَ الْقِرَاءَةِ أَوْلَى مِنْ أَدَاءِ الْكُلِّ بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ. قَالَ: (رَجُلٌ صَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ تَطَوُّعًا وَلَمْ يَقْعُدْ فِي الثَّانِيَةِ فَفِي الْقِيَاسِ لَا يُجْزِئُهُ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ)؛ لِأَنَّ كُلَّ شَفْعٍ مِنْ التَّطَوُّعِ صَلَاةٌ عَلَى حِدَةٍ تُفْتَرَضُ الْقَعْدَةُ فِي آخِرِهَا، فَتَرْكُ الْقَعْدَةِ الْأُولَى هُنَا كَتَرْكِهَا فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ وَالْجُمُعَةِ فَتَفْسُدُ بِهِ الصَّلَاةُ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ تُجْزِئُهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ- رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى- بِالْقِيَاسِ عَلَى الْفَرِيضَةِ؛ لِأَنَّ حُكْمَ التَّطَوُّعِ أَخَفُّ مِنْ حُكْمِ الْفَرِيضَةِ، وَيَجُوزُ أَدَاءُ الْفَرِيضَةِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ بِقَعْدَةٍ وَاحِدَةٍ، فَكَذَلِكَ التَّطَوُّعُ أَلَا تَرَى أَنَّ فِي التَّطَوُّعِ يَجُوزُ الْأَرْبَعُ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ وَبِتَحْرِيمَةٍ وَاحِدَةٍ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْفَرْضِ فَكَذَلِكَ فِي الْقَعْدَةِ، وَعَلَى هَذَا قَالُوا لَوْ صَلَّى التَّطَوُّعَ بِثَلَاثِ رَكَعَاتٍ بِقَعْدَةٍ وَاحِدَةٍ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ بِالْقِيَاسِ عَلَى صَلَاةِ الْمَغْرِبِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ التَّطَوُّعَ بِالرَّكْعَةِ الْوَاحِدَةِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فَيَفْسُدُ مَا اتَّصَلَ بِهِ الْقَعْدَةُ وَبِفَسَادِهَا يَفْسُدُ مَا قَبْلَهُ. وَاخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا فِيمَنْ تَطَوَّعَ بِسِتِّ رَكَعَاتٍ بِقَعْدَةٍ وَاحِدَةٍ فَجَوَّزَهَا بَعْضُهُمْ بِالْقِيَاسِ عَلَى التَّحْرِيمَةِ وَالتَّسْلِيمَةِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ اسْتِحْسَانَهُ فِي الْأَرْبَعِ كَانَ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْفَرِيضَةِ، وَلَيْسَ فِي الْفَرَائِضِ سِتُّ رَكَعَاتٍ يَجُوزُ أَدَاؤُهَا فِي قَعْدَةٍ وَاحِدَةٍ، فَيُعَادُ فِيهِ إلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ لِهَذَا. قَالَ: (امْرَأَةٌ صَلَّتْ خَلْفَ الْإِمَامِ وَقَدْ نَوَى الْإِمَامُ إمَامَةَ النِّسَاءِ فَوَقَفَتْ فِي وَسَطِ الصَّفِّ، فَإِنَّهَا تُفْسِدُ صَلَاةَ مَنْ عَنْ يَمِينِهَا وَمَنْ عَنْ يَسَارِهَا وَمَنْ خَلْفَهَا بِحِذَائِهَا عِنْدَنَا اسْتِحْسَانًا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ لَا تَفْسُدُ صَلَاةُ أَحَدٍ بِسَبَبِ الْمُحَاذَاةِ؛ لِأَنَّ مُحَاذَاةَ الْمَرْأَةِ الرَّجُلَ لَا تَكُونُ أَقْوَى مِنْ مُحَاذَاةِ الْكَلْبِ أَوْ الْخِنْزِيرِ إيَّاهُ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُفْسِدٍ لِصَلَاةِ الرَّجُلِ، وَلَوْ فَسَدَتْ الصَّلَاةُ بِسَبَبِ الْمُحَاذَاةِ لَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ تَفْسُدَ صَلَاتُهَا؛ لِأَنَّهَا مَنْهِيَّةٌ عَنْ الْخُرُوجِ إلَى الْجَمَاعَةِ وَالِاخْتِلَاطِ بِالصُّفُوفِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ الْمُحَاذَاةَ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ أَوْ سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ غَيْرُ مُفْسِدٍ عَلَى الرَّجُلِ صَلَاتَهُ، فَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ. (وَلَنَا) أَنَّهُ تَرَكَ الْمَكَانَ الْمُخْتَارَ لَهُ فِي الشَّرْعِ فَتَفْسُدُ صَلَاتُهُ كَمَا لَوْ أَخَّرَهَا وَشَرُّهَا أَوَّلُهَا، فَالْمُخْتَارُ لِلرِّجَالِ التَّقَدُّمُ عَلَى النِّسَاءِ، فَإِذَا وَقَفَ بِجَنْبِهَا أَوْ خَلْفَهَا فَقَدْ تَرَكَ الْمَكَانَ الْمُخْتَارَ لَهُ وَتَرَكَ فَرْضًا مِنْ فُرُوضِ الصَّلَاةِ أَيْضًا، فَإِنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُؤَخِّرَهَا عِنْدَ أَدَاءِ الصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَخِّرُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَخَّرَهُنَّ اللَّهُ» وَالْمُرَادُ مِنْ الْأَمْرِ بِتَأْخِيرِهَا لِأَجْلِ الصَّلَاةِ فَكَانَ مِنْ فَرَائِضِ صَلَاتِهِ، وَهَذَا لِأَنَّ حَالَ الصَّلَاةِ حَالُ الْمُنَاجَاةِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَخْطِرَ بِبَالِهِ شَيْءٌ مِنْ مَعَانِي الشَّهْوَةِ فِيهِ، وَمُحَاذَاةُ الْمَرْأَةِ إيَّاهُ لَا تَنْفَكُّ عَنْ ذَلِكَ عَادَةً، فَصَارَ الْأَمْرُ بِتَأْخِيرِهَا مِنْ فَرَائِضِ صَلَاتِهِ، فَإِذَا تَرَكَ تَفْسُدُ صَلَاتَهُ، وَإِنَّمَا لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهَا؛ لِأَنَّ الْخِطَابَ بِالتَّأْخِيرِ لِلرَّجُلِ وَهُوَ يُمْكِنُهُ أَنْ يُؤَخِّرَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَأَخَّرَ بِأَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَيْهَا، وَلِهَذَا لَمْ تَفْسُدْ صَلَاةُ الْجِنَازَةِ بِالْمُحَاذَاةِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِصَلَاةٍ مُطْلَقَةٍ هِيَ مُنَاجَاةٌ بَلْ هِيَ قَضَاءٌ لِحَقِّ الْمَيِّتِ، ثُمَّ لَيْسَ لَهَا فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ مَقَامٌ لِكَوْنِهَا مَنْهِيَّةً عَنْ الْخُرُوجِ فِي الْجَنَائِزِ، وَلَا تَفْسُدُ صَلَاةُ مَنْ هُوَ عَلَى يَمِينِ مَنْ هُوَ عَلَى يَمِينِهَا، وَمَنْ عَلَى يَسَارِ مَنْ هُوَ عَلَى يَسَارِهَا إذْ هُنَاكَ حَائِلٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْأُسْطُوَانَةِ، أَوْ كَانَ مِنْ الثِّيَابِ، فَإِنْ كَانَ صَفٌّ تَامٌّ مِنْ النِّسَاءِ وَرَاءَهُنَّ صُفُوفٌ مِنْ الرِّجَالِ فَسَدَتْ صَلَاةُ تِلْكَ الصُّفُوفِ كُلِّهَا اسْتِحْسَانًا، وَالْقِيَاسُ مِثْلُ الْأَوَّلِ أَنَّهُ لَا تَفْسُدُ إلَّا صَلَاةُ صَفٍّ وَاحِدٍ خَلْفَ صُفُوفِ النِّسَاءِ؛ لِأَنَّ تَحَقُّقَ الْمُحَاذَاةِ فِي حَقِّهِمْ وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ حَدِيثَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَمَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِمَامِ نَهْرٌ أَوْ طَرِيقٌ أَوْ صَفٌّ مِنْ النِّسَاءِ فَلَا صَلَاةَ لَهُ» وَلِأَنَّ الصَّفَّ مِنْ النِّسَاءِ بِمَنْزِلَةِ الْحَائِطِ بَيْنَ الْمُقْتَدِي وَبَيْنَ الْإِمَامِ، وَوُجُودُ الْحَائِطِ الْكَبِيرِ الَّذِي لَيْسَ عَلَيْهِ فُرْجَةٌ بَيْنَ الْمُقْتَدِي وَالْإِمَامِ يَمْنَعُ صِحَّةَ الِاقْتِدَاءِ، فَكَذَلِكَ فِي الصَّفِّ مِنْ النِّسَاءِ، فَأَمَّا الْمَرْأَتَانِ وَالثَّلَاثُ إذَا وَقَفْنَ فِي الصَّفِّ فَالْمَرْوِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْمَرْأَتَيْنِ تُفْسِدَانِ صَلَاةَ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ: مَنْ عَنْ يَمِينِهِمَا وَمَنْ عَنْ يَسَارِهِمَا وَمَنْ خَلْفَهُمَا بِحِذَائِهِمَا، وَالثَّلَاثُ يُفْسِدْنَ صَلَاةَ مَنْ عَنْ يَمِينِهِنَّ وَمَنْ عَنْ يَسَارِهِنَّ وَثَلَاثَةٍ ثَلَاثَةٍ خَلْفَهُنَّ إلَى آخِرِ الصُّفُوفِ، وَقَالَ: الثَّلَاثُ جَمْعٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فَهُوَ قِيَاسُ الصَّفِّ التَّامِّ، فَأَمَّا الْمَثْنَى فَلَيْسَتَا بِجَمْعٍ تَامٍّ فَهُمَا قِيَاسُ الْوَاحِدَةِ لَا يُفْسِدَانِ إلَّا صَلَاةَ مَنْ خَلْفَهُمَا. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى رِوَايَتَانِ فِي إحْدَاهُمَا جَعَلَ الثَّلَاثَ كَالِاثْنَيْنِ وَقَالَ لَا يُفْسِدْنَ إلَّا صَلَاةَ خَمْسَةِ نَفَرٍ: مَنْ عَنْ يَمِينِهِنَّ وَمَنْ عَنْ يَسَارِهِنَّ وَمَنْ خَلْفَهُنَّ بِحِذَائِهِنَّ؛ لِأَنَّ الْأَثَرَ جَاءَ فِي صَفٍّ تَامٍّ وَالثَّلَاثُ لَيْسَ بِصَفٍّ تَامٍّ مِنْ النِّسَاءِ، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى جَعَلَ الْمَثْنَى كَالثَّلَاثِ وَقَالَ: يُفْسِدَانِ صَلَاةَ مَنْ عَنْ يَمِينِهِمَا وَمَنْ عَنْ يَسَارِهِمَا وَصَلَاةَ رَجُلَيْنِ خَلْفَهُمَا وَصَلَاةَ رَجُلَيْنِ خَلْفَهُمَا إلَى آخِرِ الصُّفُوفِ؛ لِأَنَّ لِلْمَثْنَى حُكْمُ الثَّلَاثِ فِي الِاصْطِفَافِ حِينَ يَصْطَفَّانِ خَلْفَ الْإِمَامِ، قَالَ: عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «الِاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ»، فَإِنْ وَقَفَتْ بِحِذَاءِ الْإِمَامِ تَأْتَمُّ بِهِ وَقَدْ نَوَى إمَامَتَهَا فَسَدَتْ صَلَاةُ الْإِمَامِ وَالْقَوْمِ كُلِّهِمْ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ بِسَبَبِ الْمُحَاذَاةِ فِي صَلَاةٍ مُشْتَرَكَةٍ تَفْسُدُ وَبِفَسَادِ صَلَاتِهِ تَفْسُدُ صَلَاةُ الْقَوْمِ، وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ يَقُولُ: لَا يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهَا؛ لِأَنَّ الْمُحَاذَاةَ اقْتَرَنَتْ بِشُرُوعِهَا فِي الصَّلَاةِ، وَلَوْ طَرَأَتْ كَانَتْ مُفْسِدَةً لِصَلَاتِهَا، فَإِذَا اقْتَرَنَتْ مَنَعَتْ صِحَّةَ اقْتِدَائِهَا، وَهَذَا فَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الْمُحَاذَاةَ لَا تُؤَثِّرُ فِي صَلَاتِهَا، وَإِنَّمَا تَبْطُلُ صَلَاتُهَا بِفَسَادِ صَلَاةِ الْإِمَامِ فَلَا تَفْسُدُ صَلَاةُ الْإِمَامِ إلَّا بَعْدَ شُرُوعِهَا؛ لِأَنَّ الْمُحَاذَاةَ مَا لَمْ تَكُنْ فِي صَلَاةٍ مُشْتَرَكَةٍ لَا تُؤَثِّرُ فِي صَلَاتِهَا إلَّا فَسَادًا، حَتَّى أَنَّ الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ إذَا وَقَفَا فِي مَكَان وَاحِدٍ فَصَلَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَحْدَهُ لَا تَفْسُدُ صَلَاةُ الرَّجُلِ؛ لِأَنَّ التَّرْتِيبَ فِي الْمَقَامِ إنَّمَا يَلْزَمُهُ عِنْدَ الْمُشَارَكَةِ كَالتَّرْتِيبِ بَيْنَ الْمُقْتَدِي وَالْإِمَامِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ «عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ وَأَنَا نَائِمَةٌ بَيْنَ يَدَيْهِ مُعْتَرِضَةٌ كَاعْتِرَاضِ الْجِنَازَةِ، فَكَانَ إذَا سَجَدَ خَنَسْتُ رِجْلَيَّ، وَإِذَا قَامَ مَدَدْتُهُمَا». وَأَمَّا إذَا لَمْ يَنْوِ الْإِمَامُ إمَامَتَهَا لَمْ تَكُنْ دَاخِلَةً فِي صَلَاتِهِ فَلَا تَفْسُدُ الصَّلَاةُ عَلَى أَحَدٍ بِالْمُحَاذَاةِ عِنْدَنَا، وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهَا بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ إمَامَتَهَا، وَالْقِيَاسُ مَا قَالَهُ زُفَرُ، فَإِنَّ الرَّجُلَ صَالِحٌ لِإِمَامَةِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ جَمِيعًا، ثُمَّ اقْتِدَاءُ الرِّجَالِ بِالرَّجُلِ صَحِيحٌ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ الْإِمَامَةَ، فَكَذَلِكَ اقْتِدَاءُ النِّسَاءِ، وَاسْتَدَلَّ بِالْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ، فَإِنَّ اقْتِدَاءَ الْمَرْأَةِ بِالرَّجُلِ صَحِيحٌ فِيهِمَا، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ إمَامَتَهَا. (وَلَنَا) أَنَّ الرَّجُلَ لَمَّا كَانَ يَلْحَقُ صَلَاتَهُ فَسَادٌ مِنْ جِهَةِ الْمَرْأَةِ أَمْكَنَهُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ بِالنِّيَّةِ كَالْمُقْتَدِي لَمَّا كَانَتْ صَلَاتُهُ يَلْحَقُهَا فَسَادٌ مِنْ جِهَةِ الْإِمَامِ أَمْكَنَهُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ بِالنِّيَّةِ، وَهُوَ أَنْ لَا يَنْوِيَ الِاقْتِدَاءَ بِهِ، وَهَذَا؛ لِأَنَّا لَوْ صَحَّحْنَا اقْتِدَاءَهَا بِغَيْرِ النِّيَّةِ قَدَرَتْ عَلَى إفْسَادِ صَلَاةِ الرَّجُلِ كُلُّ امْرَأَةٍ مَتَى شَاءَتْ بِأَنْ تَقْتَدِيَ بِهِ، فَتَقِفُ إلَى جَنْبِهِ وَفِيهِ مِنْ الضَّرَرِ مَا لَا يَخْفَى، وَفِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ أَكْثَرُ مَشَايِخِنَا قَالُوا: لَا يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهَا بِهِ مَا لَمْ يَنْوِ إمَامَتَهَا، وَإِنْ كَانَ الْجَوَابُ مُطْلَقًا فِي الْكِتَابِ، وَمِنْهُمْ مَنْ سَلَّمَ فَقَالَ: الضَّرُورَةُ فِي جَانِبِهَا هَاهُنَا؛ لِأَنَّهَا لَا تَقْدِرُ عَلَى أَدَاءِ صَلَاةِ الْعِيدِ وَالْجُمُعَةِ وَحْدَهَا وَلَا تَجِدُ إمَامًا آخَرَ تَقْتَدِي بِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا لَا تَتَمَكَّنُ مِنْ الْوُقُوفِ بِجَنْبِ الْإِمَامِ فِي هَذِهِ الصَّلَوَاتِ لِكَثْرَةِ الِازْدِحَامِ فَصَحَّحْنَا اقْتِدَاءَهَا بِهِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهَا، بِخِلَافِ سَائِرِ الصَّلَوَاتِ، وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهَا إذَا وَقَفَتْ خَلْفَ الْإِمَامِ جَازَ اقْتِدَاؤُهَا بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ إمَامَتَهَا ثُمَّ إذَا وَقَفَتْ إلَى جَنْبِهِ فَسَدَتْ صَلَاتُهَا لَا صَلَاةُ الرَّجُلِ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْأَوَّلِ، وَوَجْهُهُ أَنَّهَا إذَا وَقَفَتْ خَلْفَهُ فَقَصْدُهَا أَدَاءُ الصَّلَاةِ لَا فَسَادُ صَلَاةِ الرَّجُلِ فَلَا يُشْتَرَطُ نِيَّةُ الْإِمَامَةِ، فَإِذَا وَقَفَتْ إلَى جَنْبِهِ فَقَدْ قَصَدَتْ إفْسَادَ صَلَاتِهِ فَرُدَّ قَصْدُهَا بِإِفْسَادِ صَلَاتِهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ قَدْ نَوَى إمَامَتَهَا، فَحِينَئِذٍ هُوَ مُلْتَزِمٌ بِهَذَا الضَّرَرِ. قَالَ: (وَإِذَا سَبَقَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ بِبَعْضِ الصَّلَاةِ فَلَمَّا سَلَّمَ الْإِمَامُ قَامَا يَقْضِيَانِ فَوَقَفَتْ بِحِذَاءِ الرَّجُلِ لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ، وَلَوْ كَانَا لَاحِقَيْنِ بِأَنْ أَدْرَكَا أَوَّلَ الصَّلَاةِ ثُمَّ نَامَا أَوْ سَبَقَهُمَا الْحَدَثُ فَوَقَفَتْ الْمَرْأَةُ بِحِذَائِهِ فِيمَا يُتِمَّانِ فَصَلَاةُ الرَّجُلِ فَاسِدَةٌ)؛ لِأَنَّ الْمَسْبُوقَ فِيمَا يَقْضِي كَالْمُنْفَرِدِ حَتَّى تَلْزَمَهُ الْقِرَاءَةُ وَسُجُودُ السَّهْوِ إذَا سَهَا، فَلَمْ تُوجَدْ الْمُحَاذَاةُ فِي صَلَاةٍ مُشْتَرَكَةٍ، فَأَمَّا اللَّاحِقُ فِيمَا يُتِمُّ كَالْمُقْتَدِي حَتَّى لَا يَقْرَأَ، وَلَوْ سَهَا لَا يَلْزَمُهُ سُجُودُ السَّهْوِ فَوُجِدَتْ الْمُحَاذَاةُ فِي صَلَاةٍ مُشْتَرَكَةٍ. وَفِقْهُ هَذَا الْحَرْفِ أَنَّ اللَّاحِقَ لَمَّا اقْتَدَى بِالْإِمَامِ فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ قَدْ الْتَزَمَ أَدَاءَ جَمِيعِ الصَّلَاةِ بِصِفَةِ الِاقْتِدَاءِ، فَلَا يَجُوزُ أَدَاؤُهُ بِدُونِ هَذِهِ الصِّفَةِ، فَأَمَّا الْمَسْبُوقُ إنَّمَا الْتَزَمَ بِحُكْمِ الِاقْتِدَاءِ مَا بَقِيَ عَلَى الْإِمَامِ دُونَ مَا فَرَغَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُتَصَوَّرُ فَجَعَلْنَاهُ كَالْمُنْفَرِدِ فِيمَا يَقْضِي بِهَذَا. قَالَ: (وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ يُصَلِّي الظُّهْرَ فَائْتَمَّتْ بِهِ امْرَأَةٌ تُرِيدَ التَّطَوُّعَ وَقَدْ نَوَى الْإِمَامُ إمَامَتَهَا ثُمَّ وَقَفَتْ بِحِذَائِهِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ وَصَلَاتُهَا)؛ لِأَنَّ اقْتِدَاءَ الْمُتَنَفِّلِ بِالْمُفْتَرِضِ صَحِيحٌ، فَوُجِدَتْ الْمُحَاذَاةُ فِي صَلَاةٍ مُشْتَرَكَةٍ، وَعَلَيْهَا قَضَاءُ التَّطَوُّعِ؛ لِأَنَّ الْفَسَادَ كَانَ بَعْدَ صِحَّةِ شُرُوعِهَا بِسَبَبِ فَسَادِ صَلَاةِ الْإِمَامِ، وَإِنْ كَانَتْ نَوَتْ الْعَصْرَ لَمْ تُجْزِهَا صَلَاتُهَا وَلَمْ تُفْسِدْ عَلَى الْإِمَامِ صَلَاتَهُ؛ لِأَنَّ تَغَايُرَ الْفَرْضَيْنِ يَمْنَعُ صِحَّةَ الِاقْتِدَاءِ عَلَى مَا مَرَّ فِي بَابِ الْأَذَانِ، وَمَا ذَكَرْنَا هَاهُنَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا لَا تَصِيرُ شَارِعَةً فِي الصَّلَاةِ أَصْلًا، بِخِلَافِ مَا ذَكَرَهُ فِي بَابِ الْأَذَانِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ، وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا قَالَ: الْجَوَابُ مَا ذَكَرَ فِي بَابِ الْأَذَانِ، وَمَعْنَى مَا ذَكَرَ هَاهُنَا أَنَّ الْإِمَامَ لَمْ يَنْوِ إمَامَتَهَا فِي صَلَاةِ الْعَصْرِ، فَتَجْعَلُ هِيَ فِي الِاقْتِدَاءِ بِهِ بِنِيَّةِ الْعَصْرِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَمْ يَنْوِ إمَامَتَهَا، فَلِهَذَا لَا تَصِيرُ شَارِعَةً فِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ. قَالَ: (وَيُصَلِّي الْعُرَاةُ وُحْدَانًا قُعُودًا بِإِيمَاءٍ) وَقَالَ بِشْرٌ الْمَرِيسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يُصَلُّونَ قِيَامًا بِرُكُوعٍ وَسُجُودٍ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ؛ لِأَنَّهُمْ عَجَزُوا عَنْ شَرْطِ الصَّلَاةِ وَهُوَ سَتْرُ الْعَوْرَةِ فَهُمْ قَادِرُونَ عَلَى أَرْكَانِهَا، فَعَلَيْهِمْ الْإِتْيَانُ بِمَا قَدَرُوا عَلَيْهِ، وَسَقَطَ عَنْهُمْ مَا عَجَزُوا عَنْهُ، وَمَذْهَبُنَا مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ قَالَا: الْعَارِي يُصَلِّي قَاعِدًا بِالْإِيمَاءِ، وَلِأَنَّ الْقُعُودَ وَالْإِيمَاءَ أَسْتَرُ لَهُمْ، وَفِي الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ زِيَادَةُ كَشْفِ الْعَوْرَةِ، وَذَلِكَ حَرَامٌ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِ الصَّلَاةِ، فَكُلُّ رُكُوعٍ وَسُجُودٍ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ إلَّا بِكَشْفِ الْعَوْرَةِ فَذَلِكَ حَرَامٌ، فَلَا يَكُونُ مِنْ أَرْكَانِ صَلَاتِهِ، فَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهُ الْقِيَامُ وَالرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ. وَإِنْ صَلَّوْا جَمَاعَةً قِيَامًا بِرُكُوعٍ وَسُجُودٍ أَجْزَأَهُمْ؛ لِأَنَّ تَمَامَ السَّتْرِ لَا يَحْصُلُ بِالْقُعُودِ فَتَرْكُهُ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا أَمَرْنَاهُمْ بِتَرْكِ الْجَمَاعَةِ لِيَتَبَاعَدَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، فَلَا يَقَعُ بَصَرُ بَعْضِهِمْ عَلَى عَوْرَةِ الْبَعْضِ؛ لِأَنَّ السَّتْرَ يَحْصُلُ بِهِ وَلَكِنَّ الْأَوْلَى لِإِمَامِهِمْ إذَا صَلَّوْا بِجَمَاعَةٍ أَنْ يَقُومَ وَسَطَهُمْ لِكَيْ لَا يَقَعَ بَصَرُهُمْ عَلَى عَوْرَتِهِ، وَإِنْ تَقَدَّمَهُمْ جَازَ أَيْضًا وَحَالُهُمْ فِي حَالِ الْمَوْضِعِ كَحَالِ النِّسَاءِ فِي الصَّلَاةِ فَالْأَوْلَى أَنْ يُصَلِّينَ وَحْدَهُنَّ، فَإِنْ صَلَّيْنَ بِالْجَمَاعَةِ قَامَتْ إمَامُهُنَّ وَسَطَهُنَّ، وَإِنْ تَقَدَّمَتْهُنَّ جَازَ فَكَذَلِكَ حَالُ الْعُرَاةِ. وَإِنْ كَانَ مَعَ الْعَارِي ثَوْبٌ فِيهِ نَجَاسَةٌ، فَإِنْ كَانَ قَدْرُ الرُّبُعِ مِنْ الثَّوْبِ طَاهِرًا يَلْزَمُهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ فَلَوْ صَلَّى عُرْيَانًا لَمْ تَجُزْ؛ لِأَنَّ الرُّبُعَ بِمَنْزِلَةِ الْكَمَالِ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ أَلَا تَرَى أَنَّ نَجَاسَةَ الرُّبُعِ فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ فِي الْمَنْعِ مِنْ جَوَازِ الصَّلَاةِ كَنَجَاسَةِ الْكُلِّ فَكَذَلِكَ طَهَارَةُ الرَّبُعِ فِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ كَطَهَارَةِ الْكُلِّ لِوُجُوبِ الصَّلَاةِ فِيهِ، وَأَمَّا إذَا كَانَ الثَّوْبُ كُلُّهُ مَمْلُوءًا دَمًا، أَوْ كَانَ الطَّاهِرُ مِنْهُ دُونَ رُبُعِهِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- يُخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يُصَلِّيَ عُرْيَانًا وَبَيْنَ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ وَهُوَ الْأَفْضَلُ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا تُجْزِئُهُ الصَّلَاةُ إلَّا فِيهِ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ فِي الثَّوْبِ النَّجِسِ أَقْرَبُ إلَى الْجَوَازِ مِنْ الصَّلَاةِ عُرْيَانًا، فَإِنَّ الْقَلِيلَ مِنْ النَّجَاسَةِ فِي الثَّوْبِ لَا يَمْنَعُ الْجَوَازَ، فَكَذَلِكَ الْكَثِيرُ فِي قَوْلِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ، وَقَالَ عَطَاءٌ مَنْ صَلَّى وَفِي ثَوْبِهِ سَبْعُونَ قَطْرَةً مِنْ دَمٍ جَازَتْ صَلَاتُهُ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِجَوَازِ الصَّلَاةِ عُرْيَانًا فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ صَلَّى عُرْيَانًا كَانَ تَارِكًا لِفَرَائِضَ مِنْهَا سَتْرُ الْعَوْرَةِ وَمِنْهَا الْقِيَامُ وَالرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ، فَإِذَا صَلَّى فِيهِ كَانَ تَارِكًا فَرْضًا وَاحِدًا وَهُوَ طَهَارَةُ الثَّوْبِ فَهَذَا الْجَانِبُ أَهْوَنُ. «وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا: مَا خُيِّرَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ إلَّا اخْتَارَ أَهْوَنَهُمَا فَمَنْ اُبْتُلِيَ بِبَلِيَّتَيْنِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَخْتَارَ أَهْوَنَهُمَا» وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- قَالَا: الْجَانِبَانِ فِي حُكْمِ الصَّلَاةِ سَوَاءٌ عَلَى مَعْنَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَرُورَةٌ مَحْضَةٌ لَا تَجُوزُ عِنْدَ الِاخْتِيَارِ فِي النَّفْلِ وَلَا فِي الْفَرْضِ يَعْنِي الصَّلَاةَ عُرْيَانًا وَالصَّلَاةُ فِي ثَوْبٍ مَمْلُوءٍ دَمًا، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ التَّفَاوُتُ فِي حُكْمِ الصَّلَاةِ، فَإِذَا اسْتَوَيَا خُيِّرَ بَيْنَهُمَا، وَالْأَوْلَى أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ؛ لِأَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالصَّلَاةِ، وَطَهَارَةُ الثَّوْبِ عَنْ النَّجَاسَةِ تَخْتَصُّ بِهَا، فَلِهَذَا كَانَ الْأَفْضَلُ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ. قَالَ: (وَإِذَا أَحْدَثَ الرَّجُلُ فِي رُكُوعِهِ أَوْ سُجُودِهِ فَذَهَبَ وَتَوَضَّأَ وَجَاءَ لَمْ يُجْزِئْهُ الِاعْتِدَادُ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ الَّذِي أَحْدَثَ فِيهِ)؛ لِأَنَّ الْحَدَثَ قَدْ نَقَضَهُ، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ يَفْسُدَ جَمِيعُ الصَّلَاةِ بِالْحَدَثِ تَرَكْنَاهُ بِالنَّصِّ الْمُجَوِّزِ لِلْبِنَاءِ عَلَى الصَّلَاةِ، فَبَقِيَ مَعْمُولًا بِهِ فِي حَقِّ الرُّكْنِ الَّذِي أَحْدَثَ فِيهِ؛ لِأَنَّ انْتِقَاضَ ذَلِكَ الرُّكْنِ لَا يَمْنَعُ مِنْ الْبِنَاءِ، وَلِأَنَّ تَمَامَ الرُّكْنِ بِالِانْتِقَالِ عَنْهُ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْعَلَ رَفْعَ رَأْسِهِ بَعْدَ الْحَدَثِ إتْمَامًا لِذَلِكَ الرُّكْنِ؛ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ صَلَاتِهِ، وَأَدَاءُ جُزْءٍ مِنْ صَلَاتِهِ بَعْدَ سَبْقِ الْحَدَثِ مُفْسِدٌ لِصَلَاتِهِ، وَإِذَا جَاءَ بَعْدَ الْوُضُوءِ فَعَلَيْهِ إتْمَامُ ذَلِكَ الرُّكْنِ، وَلَا يُمْكِنُهُ إتْمَامُهُ إلَّا بِإِعَادَتِهِ فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ لِهَذَا قَالَ: (فَإِنْ كَانَ إمَامًا فَأَحْدَثَ وَهُوَ رَاكِعٌ فَتَأَخَّرَ وَقَدَّمَ رَجُلًا مَكَثَ الرَّجُلُ رَاكِعًا كَمَا هُوَ حَتَّى يَكُونَ قَدْرَ رُكُوعِهِ)؛ لِأَنَّ الِاسْتِدَامَةَ فِيمَا يُسْتَدَامُ كَالْإِنْشَاءِ، وَالثَّانِي قَائِمٌ مَقَامَ الْأَوَّلِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ إنْشَاءُ الرُّكُوعِ فَعَلَى الثَّانِي اسْتِدَامَتُهُ أَيْضًا، فَإِنْ لَمْ يُحْدِثْ وَلَكِنَّ تَذَكَّرَ فِي الرُّكُوعِ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّهُ تَرَكَ سَجْدَةً مِنْ الرَّكْعَةِ الْأُولَى فَخَرَّ سَاجِدًا ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، فَإِنْ احْتَسَبَ بِذَلِكَ الرُّكُوعِ جَازَ، وَإِنْ أَعَادَهُ فَهُوَ أَحَبُّ إلَيَّ؛ لِأَنَّ تَذَكُّرَهُ السُّجُودَ غَيْرُ نَاقِضٍ لِرُكُوعِهِ، وَلِأَنَّ رَفْعَ رَأْسِهِ يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ إتْمَامًا لِلرُّكُوعِ بَعْدَ تَذَكُّرِهِ السَّجْدَةَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَخَّرَهَا إلَى آخِرِ صَلَاتِهِ جَازَ، فَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَعْتَدَّ بِهِ، وَالْإِعَادَةُ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّهُ مَا قَصَدَ إتْمَامَ الرُّكْنِ بِالِانْتِقَالِ عَنْهُ إنَّمَا قَصَدَ إذَا تَذَكَّرَ، وَقَالَ زُفَرُ- رَحِمَهُ اللَّهُ- عَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ الْقِيَامَ وَالْقِرَاءَةَ وَالرُّكُوعَ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ مُرَاعَاةَ التَّرْتِيبِ فِي أَفْعَالِ الصَّلَاةِ رُكْنٌ وَاجِبٌ فَالْتَحَقَتْ هَذِهِ السَّجْدَةُ بِمَحَلِّهَا وَبَطَلَ مَا أَدَّى مِنْ الْقِيَامِ وَالْقِرَاءَةِ وَالرُّكُوعِ لِتَرْكِ التَّرْتِيبِ، فَأَمَّا عِنْدَنَا مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ لَيْسَتْ بِرُكْنٍ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَسْبُوقَ يَبْدَأُ بِمَا أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ فِيهِ، وَلَوْ كَانَ التَّرْتِيبُ رُكْنًا لَمَا جَازَ لَهُ تَرْكُهَا بِعُذْرِ الْجَمَاعَةِ كَالتَّرْتِيبِ بَيْنَ الصَّلَوَاتِ، وَلَئِنْ كَانَ التَّرْتِيبُ وَاجِبًا فَقَدْ سَقَطَ بِعُذْرِ النِّسْيَانِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ عَلَيْهِ إعَادَةَ الرُّكُوعِ لَا مَحَالَةَ، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْقَوْمَةَ الَّتِي بَيْنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ رُكْنٌ حَتَّى لَوْ تَرَكَهَا لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ، وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الِاعْتِدَالَ فِي أَرْكَانِ الصَّلَاةِ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ أَوْ وَاجِبٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- هُوَ رُكْنٌ، حَتَّى إنَّهُ إنْ لَمْ يُتِمَّ رُكُوعَهُ وَسُجُودَهُ فِي الصَّلَاة وَلَمْ يُقِمْ صُلْبَهُ تَجُوزُ صَلَاتُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- وَيُكْرَهُ أَشَدُّ الْكَرَاهَةِ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: أَخْشَى أَنْ لَا تَجُوزَ صَلَاتُهُ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ أَصْلًا لِحَدِيثِ «الْأَعْرَابِيِّ، فَإِنَّهُ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَخَفَّفَ فَقَالَ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ارْجِعْ فَصَلِّ، فَإِنَّك لَمْ تُصَلِّ حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثًا، ثُمَّ حِينَ عَلَّمَهُ قَالَ: لَهُ ارْكَعْ حَتَّى يَطْمَئِنَّ كُلُّ عُضْوٍ مِنْكَ، ثُمَّ ارْفَعْ رَأْسَكَ حَتَّى يَطْمَئِنَّ كُلُّ عُضْوٍ مِنْكَ» الْحَدِيثَ وَرَأَى حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ رَجُلًا يُصَلِّي وَلَا يُتِمُّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ، فَقَالَ: مُذْ كَمْ تُصَلِّي هَكَذَا، فَقَالَ: مُذْ كَذَا، فَقَالَ: إنَّكَ لَمْ تُصَلِّ مُنْذُ كَذَا، وَمِثْلُ هَذَا لَا يُعْلَمُ بِالرَّأْيِ، وَإِنَّمَا يُقَالُ سَمَاعًا. (وَلَنَا) مَا رُوِيَ «عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ أَصْحَابِهِ فَدَخَلَ رَجُلٌ وَصَلَّى وَخَفَّفَ فَلَمَّا خَرَجَ أَسَاءُوا الْقَوْلَ فِيهِ فَقَالُوا: أَخَّرَهَا ثُمَّ لَمْ يُحْسِنْ أَدَاءَهَا، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: أَلَا أَحَدٌ يَشْتَرِي صَلَاتَهُ مِنْهُ، فَخَرَجَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَاشْتَرَاهَا بِدِرْهَمٍ فَأَبَى فَمَا زَالَ يَزِيدُ حَتَّى ضَجِرَ الرَّجُلُ، فَقَالَ: لَوْ أَعْطَيْتَنِي مِلْءَ الْأَرْضِ ذَهَبًا مَا بِعْتُكَهَا، فَعَادَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ، فَقَالَ: أَلَمْ أَنْهَكُمْ عَنْ الْمُصَلِّينَ» فَقَدْ جَعَلَ فِعْلَهُ صَلَاةً مُعْتَبَرَةً، وَسُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا عَنْ صَلَاةِ الْأَعْرَابِ الَّذِينَ يَنْقُرُونَ نَقْرًا، فَقَالَ: ذَلِكَ خَيْرٌ مِنْ لَا شَيْءَ، وَلِأَنَّ الرُّكْنِيَّةَ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِالْيَقِينِ، وَإِنَّمَا وَرَدَ النَّصُّ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَمُطْلَقُ الِاسْمِ يَتَنَاوَلُ الْأَدْنَى فَبَقِيَتْ الرُّكْنِيَّةُ بِذَلِكَ الْقَدْرِ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ لِلْإِكْمَالِ، وَلَكِنَّ تَرْكَ مَا هُوَ لِإِكْمَالِ الْفَرِيضَةِ مِمَّا لَيْسَ بِرُكْنٍ لَا يُفْسِدُهُ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ فِيمَا عَلَّمَهُ، فَإِنَّهُ قَالَ: «إذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ فَقَدْ أَتْمَمْتَ صَلَاتَكَ، وَإِنْ نَقَصْتَ مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ نَقَصَتْ صَلَاتُكَ». إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْقَوْمَةُ الَّتِي بَيْنَ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ رُكْنٌ، فَإِنَّهُ إذَا تَذَكَّرَ السَّجْدَةَ فِي الرُّكُوعِ إمَّا السَّجْدَةَ الصَّلَاتِيَّةَ أَوْ التِّلَاوِيَّةَ فَخَرَّ لَهَا سَاجِدًا وَلَمْ يَأْتِ بِتِلْكَ الْقَوْمَةِ فَعَلَيْهِ إعَادَةُ الرُّكُوعِ لِيَأْتِيَ بِتِلْكَ الْقَوْمَةِ. وَعِنْدَنَا تِلْكَ الْقَوْمَةُ لَيْسَتْ بِرُكْنٍ فَتَرْكُهَا لَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ وَالْأَوْلَى الْإِعَادَةُ لِيَأْتِيَ بِهَا. ثُمَّ قَدْرُ الرُّكْنِ مِنْ الرُّكُوعِ أَدْنَى الِانْحِطَاطِ عَلَى وَجْهٍ يُسَمَّى رَاكِعًا فِي النَّاسِ، وَفِي السُّجُودِ إمْسَاسُ جَبْهَتِهِ أَوْ أَنْفِهِ عَلَى الْأَرْضِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَالْمَفْرُوضُ مِنْ الرَّفْعِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ قَدْرُ مَا يُزَايِلُ جَبْهَتَهُ وَأَنْفَهُ الْأَرْضَ لِيَتَحَقَّقَ بِهِ الْفَصْلُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ. وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا- رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى-: لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَرْفَعَ بِقَدْرِ مَا يَكُونُ إلَى الْقُعُودِ أَقْرَبَ مِنْهُ إلَى السُّجُودِ، وَالْأَوَّلُ أَقْيَسُ. قَالَ: (وَإِذَا أَدْرَكَ الرَّجُلُ رَكْعَةً مَعَ الْإِمَامِ مِنْ الْمَغْرِبِ فَلَمَّا سَلَّمَ الْإِمَامُ قَامَ يَقْضِي قَالَ: يُصَلِّي رَكْعَةً وَيَقْعُدُ)، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ، وَالْقِيَاسُ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ يَقْعُدُ؛ لِأَنَّهُ يَقْضِي مَا فَاتَهُ فَيَقْضِي كَمَا فَاتَهُ، وَيُؤَيَّدُ هَذَا الْقِيَاسَ بِالسُّنَّةِ وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا» وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هَذِهِ الرَّكْعَةَ ثَانِيَةُ هَذَا الْمَسْبُوقِ، وَالْقَعْدَةُ بَعْدَ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ سُنَّةٌ، وَهَذَا لِأَنَّ الثَّانِيَةَ هِيَ الثَّالِثَةُ لِلْأُولَى، وَالثَّانِيَةُ لِلْأُولَى فِي حَقِّهِ هَذِهِ الرَّكْعَةُ، وَرُوِيَ أَنْ جُنْدُبًا وَمَسْرُوقًا رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا اُبْتُلِيَا بِهَذَا، فَصَلَّى جُنْدُبٌ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قَعَدَ، وَمَسْرُوقٌ رَكْعَةً ثُمَّ قَعَدَ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَةً أُخْرَى، فَسَأَلَا عَنْ ذَلِكَ ابْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، فَقَالَ: كِلَاكُمَا أَصَابَ، وَلَوْ كُنْتُ أَنَا لَصَنَعْتُ كَمَا صَنَعَ مَسْرُوقٌ، وَتَأْوِيلُ قَوْلِهِ: كِلَاكُمَا أَصَابَ طَرِيقَ الِاجْتِهَادِ، فَأَمَّا الْحَقُّ فَوَاحِدٌ غَيْرُ مُتَعَدِّدٍ، ثُمَّ مَا يُصَلِّي الْمَسْبُوقُ مَعَ الْإِمَامِ آخِرَ صَلَاتِهِ حُكْمًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقِرَاءَةِ وَالْقُنُوتِ هُوَ آخِرُ صَلَاتِهِ، وَفِي حُكْمِ الْقَعْدَةِ هُوَ أَوَّلُ صَلَاتِهِ، وَمَذْهَبُهُ مَذْهَبُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَمَذْهَبُهُمَا مَذْهَبُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ هُوَ أَوَّلُ صَلَاتِهِ فِعْلًا وَحُكْمًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ الْآخِرُ إلَّا بَعْدَ الْأَوَّلِ فِي الْأَدَاءِ، أَلَا تَرَى أَنَّ تَكْبِيرَةَ الِافْتِتَاحِ فِي حَقِّهِ أَوَّلُ الصَّلَاةِ فَكَذَلِكَ مَا بَعْدَهُ، وَلَكِنَّا نَقُولُ: لَوْ كَانَ هَذَا مُؤَدِّيًا لِأَوَّلِ الصَّلَاةِ كَانَ مُخَالِفًا لِإِمَامِهِ، وَلَا يَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ بِهِ كَيْفَ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا» فَهُوَ نَصٌّ عَلَى أَنَّهُ مُؤَدٍّ مَعَ الْإِمَامِ مَا أَدْرَكَ لَا مَا فَاتَهُ، وَلَكِنْ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى جَعَلَهُ فِي حُكْمِ الْقِرَاءَةِ هَكَذَا احْتِيَاطًا حَتَّى تَلْزَمُهُ الْقِرَاءَةُ فِيمَا يَقْضِي؛ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ مُكَرَّرَةٌ فِي صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ، وَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ الْقُنُوتِ؛ لِأَنَّهُ يَتَكَرَّرُ فِي صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ، فَلَوْ جَعَلْنَا مَا يُؤَدِّيهِ مَعَ الْإِمَامِ أَوَّلَ الصَّلَاةِ لَلَزِمَهُ الْقُنُوتُ فِيمَا يَقْضِي، فَيُؤَدِّي إلَى تَكْرَارِ الْقُنُوتِ فِي صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ، فَأَمَّا فِي حُكْمِ الْقَعْدَةِ فَتَتِمُّ الصَّلَاةُ بِقَعْدَةٍ هِيَ رُكْنٌ، وَلَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَجْعَلَ مَا يُؤَدِّيهِ مَعَ الْإِمَامِ أَوَّلَ الصَّلَاةِ، فَلِهَذَا قَعَدَ إذَا صَلَّى رَكْعَةً، وَحُكِيَ عَنْ يَحْيَى الْبَنَّاءِ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَأَجَابَ بِمَا قُلْنَا، فَقَالَ عَلَى وَجْهِ السُّخْرِيَةِ: هَذِهِ صَلَاةٌ مَعْكُوسَةٌ، فَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا أَفْلَحْتَ، قَالَ: وَكَانَ كَمَا قَالَ: أَفْلَحَ أَصْحَابُهُ وَلَمْ يُفْلِحْ بِدُعَائِهِ. قَالَ: (وَأُحِبُّ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي فِي الصَّحْرَاءِ شَيْءٌ أَدْنَاهُ طُولُ ذِرَاعٍ) لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فِي الصَّحْرَاءِ فَلْيَتَّخِذْ بَيْنَ يَدَيْهِ سُتْرَةً» وَكَانَتْ الْعَنَزَةُ تُحْمَلُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتُرْكَزُ فِي الصَّحْرَاءِ بَيْنَ يَدَيْهِ فَيُصَلِّي إلَيْهَا، حَتَّى قَالَ عَوْنُ بْنُ جُحَيْفَةَ عَنْ أَبِيهِ «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبَطْحَاءِ فِي قُبَّةٍ حَمْرَاءَ مِنْ أَدَمٍ، فَرَكَزَ بِلَالٌ الْعَنَزَةَ، وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي إلَيْهَا، وَالنَّاسُ يَمُرُّونَ مِنْ وَرَائِهَا»، وَإِنَّمَا قَالَ: بِقَدْرِ ذِرَاعٍ طُولًا وَلَمْ يَذْكُرْ الْعَرْضَ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ فِي غِلَظِ أُصْبُعٍ لِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ، يُجْزِئُ مِنْ السُّتْرَةِ السَّهْمُ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ أَنْ يَبْدُو لِلنَّاظِرِ فَيَمْتَنِعُ مِنْ الْمُرُورِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَمَا دُونَ هَذَا لَا يَبْدُو لِلنَّاظِرِ مِنْ بُعْدٍ، (وَإِذَا اتَّخَذَ السُّتْرَةَ فَلْيَدْنُ مِنْهَا) لِمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ إلَى سُتْرَةٍ فَلْيُرْهِقْهَا»، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ يَدَيْهِ شَيْءٌ، فَصَلَاتُهُ جَائِرَةٌ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِاِتِّخَاذِ السُّتْرَةِ لَيْسَ لِمَعْنًى رَاجِعٍ إلَى عَيْنِ الصَّلَاةِ، فَلَا يَمْنَعُ تَرْكُهُ جَوَازَ الصَّلَاةِ. وَإِنْ مَرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ مَارٌّ مِنْ رَجُلٍ أَوْ امْرَأَةٍ أَوْ حِمَارٍ أَوْ كَلْبٍ لَمْ يَقْطَعْ صَلَاتَهُ عِنْدَنَا، وَقَالَ أَصْحَابُ الظَّوَاهِرِ مُرُورُ الْمَرْأَةِ وَالْحِمَارِ وَالْكَلْبِ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي يُفْسِدُ صَلَاتَهُ لِحَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يَقْطَعُ الصَّلَاةَ الْمَرْأَةُ وَالْحِمَارُ وَالْكَلْبُ»، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ قَالَ «الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ، فَقِيلَ لَهُ: وَمَا بَالُ الْأَسْوَدِ مِنْ غَيْرِهِ، فَقَالَ: أَشْكَلَ عَلَيَّ مَا أَشْكَلَ فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ شَيْطَانٌ». (وَلَنَا) حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ مُرُورُ شَيْءٍ وَادْرَءُوا مَا اسْتَطَعْتُمْ» وَالْحَدِيثُ الَّذِي رَوَوْا رَدَّتْهُ «عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا، فَإِنَّهَا قَالَتْ لِعُرْوَةِ: يَا عُرْوَةُ مَاذَا يَقُولُ أَهْلُ الْعِرَاقِ؟ قَالَ: يَقُولُونَ تَقْطَعُ الصَّلَاةَ الْمَرْأَةُ وَالْحِمَارُ وَالْكَلْبُ، فَقَالَتْ: يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ وَالشِّقَاقِ وَالنِّفَاقِ قَرَنْتُمُونِي بِالْكِلَابِ وَالْحَمِيرِ، كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ وَأَنَا مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ يَدَيْهِ كَاعْتِرَاضِ الْجِنَازَةِ» وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ مُرُورَ الْمَرْأَةِ لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي فِي بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ فَأَرَادَ عُمَرُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ فَأَشَارَ عَلَيْهِ فَوَقَفَ، ثُمَّ أَرَادَتْ زَيْنَبُ أَنْ تَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ فَأَشَارَ عَلَيْهَا فَلَمْ تَقِفْ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ، قَالَ: هُنَّ أَغْلَبُ صَاحِبَاتِ يُوسُفَ يَغْلِبْنَ الْكِرَامَ وَيَغْلِبهُنَّ اللِّئَامُ» وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ مُرُورَ الْحِمَارِ وَالْكَلْبِ لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ: «زُرْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَخِي الْفَضْلِ عَلَى حِمَارٍ فِي الْبَادِيَةِ فَنَزَلْنَا فَوَجَدْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فَصَلَّيْنَا مَعَهُ وَالْحِمَارُ يَرْتَعُ بَيْنَ يَدَيْهِ». وَيَنْبَغِي أَنْ يَدْفَعَ الْمَارُّ عَنْ نَفْسِهِ لَا لِكَيْ لَا يُشْغِلَهُ عَنْ صَلَاتِهِ عَمَلًا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَادْرَءُوا مَا اسْتَطَعْتُمْ» إلَّا أَنَّهُ يَدْفَعُهُ بِالْإِشَارَةِ أَوْ الْأَخْذِ بِطَرَفِ ثَوْبِهِ عَلَى وَجْهٍ لَيْسَ فِيهِ مَشْيٌ وَلَا عِلَاجٌ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ: إنْ لَمْ يَقِفْ بِإِشَارَتِهِ جَازَ دَفْعُهُ بِالْقِتَالِ، لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي فَأَرَادَ أَنْ يَمُرَّ ابْنُ مَرْوَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَأَشَارَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَقِفْ، فَلَمَّا حَاذَاهُ ضَرَبَهُ عَلَى صَدْرِهِ ضَرْبَةً أَقْعَدَهُ عَلَى اسْتِهِ، فَجَاءَ إلَى أَبِيهِ يَشْكُو أَبَا سَعِيدٍ فَدَعَاهُ فَقَالَ: لِمَ ضَرَبْتَ ابْنِي، فَقَالَ: مَا ضَرَبْتُ ابْنَكَ إنَّمَا ضَرَبْتُ الشَّيْطَانَ، قَالَ: لِمَ تُسَمِّي ابْنِي شَيْطَانًا قَالَ: لِأَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَأَرَادَ مَارٌّ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلْيَدْفَعْهُ، فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ، فَإِنَّهُ شَيْطَانٌ» وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إنَّ فِي الصَّلَاةِ لَشُغْلًا» يَعْنِي بِأَعْمَالِ الصَّلَاةِ، وَتَأْوِيلُ حَدِيث أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ فِي وَقْتٍ كَانَ الْعَمَلُ مُبَاحًا فِي الصَّلَاةِ. (وَيُكْرَهُ لِلْمَارِّ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي) لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ عَلِمَ الْمَارُّ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي مَا عَلَيْهِ لَوَقَفَ، وَلَوْ إلَى أَرْبَعِينَ» وَلَمْ يُوَقِّتْ يَوْمًا وَلَا شَهْرًا وَلَا سَنَةً. (وَحَدُّ الْمُرُورِ بَيْنَ يَدَيْهِ غَيْرُ مَنْصُوصٍ فِي الْكِتَابِ، وَقِيلَ إلَى مَوْضِعِ سُجُودِ، وَقِيلَ بِقَدْرِ الصَّفَّيْنِ)، وَأَصَحُّ مَا قِيلَ فِيهِ أَنَّ الْمُصَلِّي لَوْ صَلَّى بِخُشُوعٍ فَإِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يَقَعُ بَصَرُهُ عَلَى الْمَارِّ يُكْرَهُ الْمُرُورُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَفِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ لَا يُكْرَهُ، وَحَكَى أَبُو عِصْمَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إذَا لَمْ يَجِدْ سُتْرَةً يَخُطُّ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَإِنَّ الْخَطَّ وَتَرْكُهُ سَوَاءٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَبْدُو لِلنَّاظِرِ مِنْ بُعْدٍ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ يَخُطُّ بَيْنَ يَدَيْهِ إمَّا طُولًا شِبْهَ ظِلِّ السُّتْرَةِ أَوْ عَرْضًا شِبْهَ الْمِحْرَابِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فِي الصَّحْرَاءِ فَلْيَتَّخِذْ بَيْنَ يَدَيْهِ سُتْرَةً، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيَخُطَّ بَيْنَ يَدَيْهِ خَطًّا» وَلَكِنَّ الْحَدِيثَ شَاذٌّ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى فَلَمْ نَأْخُذْ بِهِ لِهَذَا. قَالَ: (وَإِذَا انْفَرَدَ الْمُصَلِّي خَلْفَ الْإِمَامِ عَنْ الصَّفِّ لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ) وَقَالَ أَهْلُ الْحَدِيثِ مِنْهُمْ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا صَلَاةَ لِمُنْفَرِدٍ خَلْفَ الصَّفِّ» وَعَنْ فُرَافِصَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «رَأَى رَجُلًا يُصَلِّي فِي حُجْرَةٍ مِنْ الْأَرْضِ فَقَالَ: أَعِدْ صَلَاتَك فَإِنَّهُ لَا صَلَاةَ لِمُنْفَرِدٍ خَلْفَ الصَّفِّ». (وَلَنَا) حَدِيثُ «أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: فَأَقَامَنِي وَالْيَتِيمَ مِنْ وَرَائِي وَأُمِّي أُمُّ سُلَيْمٍ وَرَاءَنَا»، فَقَدْ جَوَّزَ اقْتِدَاءَهَا وَهِيَ مُنْفَرِدَةٌ خَلْفَ الصَّفِّ، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا تُفْسِدُ صَلَاةَ الرَّجُلِ؛ لِأَنَّهُ أَقَامَهَا خَلْفَهُمَا مَعَ النَّهْيِ عَنْ الِانْفِرَادِ، فَمَا كَانَ ذَلِكَ إلَّا صِيَانَةً لِصَلَاتِهِمَا «وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاكِعٌ فَكَبَّرَ وَرَكَعَ ثُمَّ دَبَّ حَتَّى لَصِقَ بِالصَّفِّ، فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ صَلَاتِهِ قَالَ: زَادَكَ اللَّهُ حِرْصًا وَلَا تَعُدْ أَوْ قَالَ: لَا تُعِدْ»، فَقَدْ جَوَّزَ اقْتِدَاءَهُ بِهِ وَهُوَ خَلْفَ الصَّفِّ. يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ بِجَنْبِهِ مُرَاهِقٌ تَجُوزُ صَلَاتُهُ بِالِاتِّفَاقِ، وَصَلَاةُ الْمُرَاهِقِ تَخَلُّقٌ فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ مُنْفَرِدٌ خَلْفَ الصَّفِّ، وَلِذَلِكَ لَوْ تَبَيَّنَ أَنَّ مَنْ كَانَ بِجَنْبِهِ كَانَ مُحْدِثًا تَجُوزُ صَلَاتُهُ وَهُوَ مُنْفَرِدٌ خَلْفَ الصَّفِّ، وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ نَفْيُ الْكَمَالِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ» وَالْأَمْرُ بِالْإِعَادَةِ شَاذٌّ، وَلَوْ ثَبَتَ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِمَامِ مَا يَمْنَعُ الِاقْتِدَاءَ، وَفِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ قَالَ: فِي حُجْرَةٍ مِنْ الْأَرْضِ أَيْ نَاحِيَةٍ وَلَكِنَّ الْأَوْلَى عِنْدَنَا أَنْ يَخْتَلِطَ بِالصَّفِّ إنْ وَجَدَ فُرْجَةً، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ وَقَفَ يَنْتَظِرُ مَنْ يَدْخُلُ فَيَصْطَفَّانِ مَعَهُ، فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ أَحَدٌ وَخَافَ فَوْتَ الرَّكْعَةَ جَذَبَ مِنْ الصَّفِّ إلَى نَفْسِهِ مَنْ يَعْرِفُ مِنْهُ عِلْمًا وَحُسْنَ الْخُلُقِ لِكَيْ لَا يَصْعُبُ عَلَيْهِ فَيَصْطَفَّانِ خَلْفَهُ، فَإِنْ لَمْ يَنْجَرَّ إلَيْهِ أَحَدٌ حِينَئِذٍ يَقِفُ خَلْفَ الصَّفِّ بِحِذَاءِ الْإِمَامِ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ، فَإِنْ كَانَ بَيْنَ الْإِمَامِ وَبَيْنَ الْمُقْتَدِي حَائِطٌ أَجْزَأَتْهُ، وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا تُجْزِئُهُ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي الْأَصْلِ فِي تَعْلِيلِ مَسْأَلَةِ الْمُحَاذَاةِ. وَفِي الْحَاصِلِ هَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ: إنْ كَانَ الْحَائِطُ قَصِيرًا دَلِيلًا يَعْنِي بِهِ الصَّغِيرَ جِدًّا حَتَّى يَتَمَكَّنَ كُلُّ أَحَدٍ مِنْ الرُّكُوبِ عَلَيْهِ كَحَائِطِ الْمَقْصُورَةِ لَا يَمْنَعُ الِاقْتِدَاءَ، وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ بَابٌ مَفْتُوحٌ أَوْ خَوْخَةٌ فَكَذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ. وَجْهُ الرِّوَايَةِ الَّتِي قَالَ: لَا يَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ أَنَّهُ يُشْتَبَهُ عَلَيْهِ حَالُ إمَامِهِ، وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى مَا ظَهَرَ مِنْ عَمَلِ النَّاسِ كَالصَّلَاةِ بِمَكَّةَ، فَإِنَّ الْإِمَامَ يَقِفُ فِي مَقَامِ إبْرَاهِيمَ، وَبَعْضُ النَّاسِ يَقِفُونَ وَرَاءَ الْكَعْبَةِ مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ، فَبَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِمَامِ حَائِطُ الْكَعْبَةِ، وَلَمْ يَمْنَعْهُمْ أَحَدٌ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا طَرِيقٌ يَمُرُّ النَّاسُ فِيهِ أَوْ نَهْرٌ عَظِيمٌ لَمْ تَجُزْ صَلَاتُهُ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِمَامِ نَهْرٌ أَوْ طَرِيقٌ فَلَا صَلَاةَ لَهُ، وَفِي رِوَايَةٍ فَلَيْسَ مَعَهُ، وَالْمُرَادُ طَرِيقٌ تَمُرُّ فِيهِ الْعَجَلَةُ فَمَا دُونَ ذَلِكَ الطَّرِيقِ لَا طَرِيقٌ، وَالْمُرَادُ مِنْ النَّهْرِ مَا تَجْرِي فِيهِ السُّفُنُ فَمَا دُونَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْجِدَارِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الِاقْتِدَاءِ، فَإِنْ كَانَتْ الصُّفُوفُ مُتَّصِلَةً عَلَى الطَّرِيقِ جَازَ الِاقْتِدَاءُ حِينَئِذٍ؛ لِأَنَّ بِاتِّصَالِ الصُّفُوفِ خَرَجَ هَذَا الْمَوْضِعُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَمَرًّا لِلنَّاسِ وَصَارَ مُصَلًّى فِي حُكْمِ هَذِهِ الصَّلَاةِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ عَلَى النَّهْرِ جِسْرٌ وَعَلَيْهِ صَفٌّ مُتَّصِلٌ فَبِحُكْمِ اتِّصَالِ الصُّفُوفِ صَارَ فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ، فَيَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ. قَالَ: (وَالْفَتْحُ عَلَى الْإِمَامِ لَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ) يَعْنِي الْمُقْتَدِي، فَأَمَّا غَيْرُ الْمُقْتَدِي إذَا فَتَحَ عَلَى الْمُصَلِّي تَفْسُدُ بِهِ صَلَاةُ الْمُصَلِّي، وَكَذَلِكَ الْمُصَلِّي إذَا فَتَحَ عَلَى غَيْرِ الْمُصَلِّي؛ لِأَنَّهُ تَعْلِيمٌ وَتَعَلُّمٌ، وَالْقَارِئُ إذَا اسْتَفْتَحَ غَيْرَهُ فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: بَعْدَ مَا قَرَأْتَ مَاذَا فَذَكِّرْنِي، وَاَلَّذِي يُفْتَحُ عَلَيْهِ كَأَنَّهُ يَقُولُ بَعْدَ مَا قَرَأْتُ كَذَا فَخُذْ مِنِّي، وَلَوْ صَرَّحَ بِهَذَا لَمْ يَشْكُلْ فَسَادُ صَلَاةِ الْمُصَلِّي، فَأَمَّا الْمُقْتَدِي إذَا فَتَحَ عَلَى إمَامِهِ هَكَذَا فِي الْقِيَاسِ، وَلَكِنَّهُ اُسْتُحْسِنَ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ سُورَةَ الْمُؤْمِنِينَ فَتَرَكَ حَرْفًا، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: أَلَمْ يَكُنْ فِيكُمْ أُبَيٌّ، فَقَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: هَلَّا فَتَحْتَ عَلَيَّ فَقَالَ ظَنَنْتُ أَنَّهَا نُسِخَتْ، فَقَالَ: لَوْ نُسِخَتْ لَأَنْبَأْتُكُمْ بِهَا» وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: إذَا اسْتَطْعَمَكَ الْإِمَامُ فَأَطْعِمْهُ وَابْنُ عُمَرَ قَرَأَ الْفَاتِحَةَ فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ فَلَمْ يَتَذَكَّرْ سُورَةً، فَقَالَ نَافِعٌ: {إذَا زُلْزِلَتْ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} فَقَرَأَهَا، وَلِأَنَّ الْمُقْتَدِيَ يَقْصِدُ إصْلَاحَ صَلَاتِهِ، فَإِنْ قَرَأَ الْإِمَامُ فَلِتَحَقُّقِ حَاجَتِهِ قُلْنَا لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ، وَبِهَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَجِّلَ بِالْفَتْحِ عَلَى الْإِمَامِ وَلَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُحْوِجَهُ إلَى ذَلِكَ بَلْ يَرْكَعُ أَوْ يَتَجَاوَزُ إلَى آيَةٍ أَوْ سُورَةٍ أُخْرَى، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ وَخَافَ أَنْ يَجْرِيَ عَلَى لِسَانِهِ مَا يُفْسِدُ الصَّلَاةَ فَحِينَئِذٍ يُفْتَحُ لِقَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ إذَا اسْتَطْعَمَكَ الْإِمَامُ فَأَطْعِمْهُ وَهُوَ مُلِيمٌ أَيْ مُسْتَحِقُّ اللُّوَّمِ؛ لِأَنَّهُ أَحْوَجَ الْمُقْتَدِيَ إلَى ذَلِكَ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: يَنْوِي بِالْفَتْحِ عَلَى إمَامِهِ التِّلَاوَةَ وَهُوَ سَهْوٌ، فَقِرَاءَةُ الْمُقْتَدِي خَلْفَ الْإِمَامِ مَنْهِيٌّ عَنْهَا، وَالْفَتْحُ عَلَى إمَامِهِ غَيْرُ مَنْهِيٍّ عَنْهُ، وَلَا يَدَعُ نِيَّةَ مَا رُخِّصَ لَهُ بِنِيَّةِ شَيْءٍ هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَإِنَّمَا هَذَا إذَا أَرَادَ أَنْ يَفْتَحَ عَلَى غَيْرِ إمَامِهِ فَحِينَئِذٍ يَنْبَغِي أَنْ يَنْوِيَ التِّلَاوَةَ دُونَ التَّعْلِيمِ فَلَا يَضُرُّهُ ذَلِكَ. قَالَ: (وَقَتْلُ الْحَيَّةَ وَالْعَقْرَبِ فِي الصَّلَاةِ لَا يُفْسِدُهَا) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «اُقْتُلُوا الْأَسْوَدَيْنِ، وَلَوْ كُنْتُمْ فِي الصَّلَاةِ» «وَلَدَغَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَقْرَبٌ فِي صَلَاتِهِ فَوَضَعَ عَلَيْهِ نَعْلَهُ وَغَمَزَهُ حَتَّى قَتَلَهُ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: لَعَنَ اللَّهُ الْعَقْرَبَ لَا تُبَالِي نَبِيًّا وَلَا غَيْرَهُ، أَوْ قَالَ مُصَلِّيًا وَلَا غَيْرَهُ»، وَلِأَنَّهُ رَخَّصَ لِلْمُصَلِّي أَنْ يَدْرَأَ عَنْ نَفْسِهِ مَا يَشْغَلُهُ عَنْ صَلَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ ذَاكَ وَقِيلَ: هَذَا إذَا أَمْكَنَهُ قَتْلُ الْحَيَّةِ بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعَقْرَبِ، فَأَمَّا إذَا احْتَاجَ إلَى مُعَالَجَةٍ وَضَرَبَاتٍ فَلْيَسْتَقْبِلْ الصَّلَاةَ كَمَا لَوْ قَاتَلَ إنْسَانًا فِي صَلَاتِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا عَمَلٌ كَثِيرٌ وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْكُلَّ سَوَاءٌ فِيهِ؛ لِأَنَّ هَذَا عَمَلٌ رُخِّصَ فِيهِ لِلْمُصَلِّي فَهُوَ كَالْمَشْيِ بَعْدَ الْحَدَثِ وَالِاسْتِقَاءِ مِنْ الْبِئْرِ وَالتَّوَضُّؤِ، وَإِذَا رَمَى طَائِرًا بِحَجَرٍ لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ هَذَا عَمَلٌ قَلِيلٌ وَلَكِنَّهُ مَكْرُوهٌ؛ لِأَنَّهُ اشْتِغَالٌ بِمَا لَيْسَ مِنْ أَعْمَالِ الصَّلَاةِ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْكَرَاهَةَ فِي قَتْلِ الْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى ذَلِكَ لِدَفْعِ أَذَاهَا عَنْ نَفْسِهِ، وَلَيْسَ فِي أَذَى الطَّيْرِ مَا يُحْوِجُهُ إلَى هَذَا لِدَفْعِ أَذَاهَا عَنْ نَفْسِهِ فَلِهَذَا ذَكَرَ الْكَرَاهَةَ فِيهِ. وَإِنْ أَخَذَ قَوْسًا وَرَمَى بِهِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ، وَبَعْضُ أَهْلِ الْأَدَبِ عَابُوا عَلَيْهِ فِي هَذَا اللَّفْظِ، وَقَالُوا: الرَّمْيُ بِالْقَوْسِ إسْقَاطُهُ مِنْ يَدِهِ، وَإِنَّمَا يُقَالُ: يَرْمِي إذَا رَمَى بِالسَّهْمِ غَيْرَ أَنَّ الْمَقْصُودَ لِمُحَمَّدٍ كَانَ تَعْلِيمَ عَامَّةِ النَّاسِ، وَوَجَدَ هَذَا اللَّفْظَ مَعْرُوفًا فِي لِسَانِ الْعَامَّةِ فَلِهَذَا ذَكَرَهُ، وَإِنَّمَا فَسَدَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ عَمَلٌ كَثِيرٌ، فَإِنَّ أَخْذَ الْقَوْسِ وَتَثْقِيفَ السَّهْمِ عَلَيْهِ وَالْمَدُّ حَتَّى رَمَى عَمَلٌ كَثِيرٌ يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى اسْتِعْمَالِ الْيَدَيْنِ، وَالنَّاظِرُ إلَيْهِ مِنْ بَعِيدٍ لَا يَشُكُّ أَنَّهُ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، فَكَانَ مُفْسِدًا لِهَذَا، وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّهَنَ أَوْ سَرَّحَ رَأْسَهُ أَوْ أَرْضَعَتْ الْمَرْأَةُ صَبِيَّهَا، مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ جَعَلَ الْفَاصِلَ بَيْنَ الْعَمَلِ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ أَنْ يَحْتَاجَ فِيهِ إلَى اسْتِعْمَالِ الْيَدَيْنِ حَتَّى قَالُوا إذَا زَرَّ قَمِيصَهُ فِي الصَّلَاةِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ، وَإِذَا حَلَّ إزَارَهُ لَمْ تَفْسُدْ، وَالْأَصَحُّ أَنْ يُقَالَ فِيهِ: إنَّ كُلَّ عَمَلٍ إذَا نَظَرَ إلَيْهِ النَّاظِرُ مِنْ بَعِيدٍ لَا يَشُكُّ أَنَّهُ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ فَهُوَ مُفْسِدٌ لِصَلَاتِهِ، وَكُلُّ عَمَلٍ لَوْ نَظَرَ إلَيْهِ النَّاظِرُ فَرُبَّمَا يُشْتَبَهُ عَلَيْهِ أَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ فَذَلِكَ غَيْرُ مُفْسِدٍ، فَمَا ذَكَرَ مِنْ الْأَعْمَالِ إذَا نَظَرَ النَّاظِرُ إلَيْهِ لَا يَشُكُّ أَنَّهُ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ إذَا حَمَلَتْ صَبِيَّهَا أَوْ أَرْضَعَتْهُ لَمْ يَشْكُلْ عَلَى أَحَدٍ أَنَّهَا فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، وَقَدْ رَوَيْنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «قَرَأَ الْمُعَوِّذَتَيْنِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ بُكَاءَ صَبِيٍّ فَخَشِيَتْ عَلَى أُمِّهِ أَنْ تُفْتَتَنَ»، فَلَوْ كَانَ الْإِرْضَاعُ غَيْرَ مُفْسِدٍ لِلصَّلَاةِ لَمَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُنَّةَ الْقِرَاءَةِ لِأَجْلِ بُكَائِهِ. وَإِنْ قَاتَلَ فِي صَلَاتِهِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شُغِلَ عَنْ أَرْبَعِ صَلَوَاتٍ يَوْمَ الْخَنْدَقِ لِكَوْنِهِ مَشْغُولًا بِالْقِتَالِ فَلَوْ جَازَتْ الصَّلَاةُ مَعَ الْقِتَالِ لَمَا أَخَّرَهَا. وَكَذَلِكَ إنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ فِي الصَّلَاةِ نَاسِيًا أَوْ عَامِدًا، بِخِلَافِ الصَّوْمِ، فَإِنَّهُ يَفْصِلُ بَيْنَ النِّسْيَانِ وَالْعَمْدِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ اقْتَرَنَ بِحَالِ الْمُصَلِّي مَا يُذَكِّرُهُ، فَإِنَّ حُرْمَةَ الصَّلَاةِ مَانِعَةٌ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الطَّعَامِ الْمُؤَدِّي إلَى الْأَكْلِ، فَلِهَذَا سَوَّى بَيْنَ النِّسْيَانِ وَالْعَمْدِ، وَفِي الصَّوْمِ لَمْ يَقْتَرِنْ بِحَالِهِ مَا يُذَكِّرُهُ، فَإِنَّ الصَّوْمَ لَا يَمْنَعُهُ مَا يُؤَدِّي إلَى الْأَكْلِ وَهُوَ التَّصَرُّفُ فِي الطَّعَامِ، ثُمَّ الْأَكْلُ عَمَلٌ لَوْ نَظَرَ إلَيْهِ النَّاظِرُ لَا يَشُكُّ أَنَّهُ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ. وَعَلَى هَذَا قَالَ مُحَمَّدٌ مَضْغُ الْعِلْكِ فِي الصَّلَاةِ يُفْسِدُهَا؛ لِأَنَّ النَّاظِرَ إلَيْهِ مِنْ بَعِيدٍ لَا يَشُكُّ أَنَّهُ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، وَإِنْ كَانَ فِي أَسْنَانِهِ شَيْءٌ فَابْتَلَعَهُ لَمْ يَضُرَّهُ؛ لِأَنَّ مَا يَبْقَى بَيْنَ الْأَسْنَانِ فِي حُكْمِ التَّبَعِ لِرِيقِهِ فَلِهَذَا لَا يَفْسُدُ الصَّوْمُ، وَهَذَا إذَا كَانَ دُونَ الْحِمَّصَةِ، فَإِنْ ذَلِكَ يَبْقَى بَيْنَ الْأَسْنَانِ عَادَةً، وَكَذَلِكَ إنْ قَلَسَ أَقَلَّ مِنْ مِلْءِ الْفَمِ ثُمَّ رَجَعَ فَدَخَلَ جَوْفَهُ وَهُوَ لَا يَمْلِكُهُ فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ رِيقِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَنْقُضُ وُضُوءَهُ فَكَذَلِكَ لَا يُفْسِدُ صَلَاتَهُ، وَالْمُتَهَجِّدُ بِاللَّيْلِ فَقَدْ يُبْتَلَى بِهَذَا خُصُوصًا فِي لَيَالِيِ رَمَضَانَ إذَا امْتَلَأَ مِنْ الطَّعَامِ عِنْدَ الْفِطْرِ، فَلِلْبَلْوَى قُلْنَا لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ. قَالَ: (وَإِنْ انْتَضَحَ الْبَوْلُ عَلَى الْمُصَلِّي أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ مِنْ مَوْضِعٍ فَانْفَتَلَ فَغَسَلَهُ لَمْ يَبْنِ عَلَى صَلَاتِهِ)، وَفِي الْإِمْلَاءِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: يَبْنِي؛ لِأَنَّ هَذَا بَعْضُ مَا وَرَدَ بِهِ النَّصُّ، فَقَدْ رَوَيْنَا فِي الرُّعَافِ، وَمَنْ رَعَفَ يَحْتَاجُ إلَى غَسْلِ أَنْفِهِ إلَى الْوُضُوءِ، فَإِذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَبْنِيَ ثَمَّةَ فَهَاهُنَا أَوْلَى. وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْبِنَاءَ عَلَى الصَّلَاةِ حُكْمٌ ثَبَتَ بِالْآثَارِ، بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فَلَا يَلْحَقُ بِهِ إلَّا مَا يَكُونُ فِي مَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَهَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الِانْصِرَافَ هُنَاكَ كَانَ لِلْوُضُوءِ وَلَا بُدَّ مِنْهُ، وَالِانْصِرَافَ هَاهُنَا لِغَسْلِ النَّجَاسَةِ عَنْ الثَّوْب، وَقَدْ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ بِأَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ ثَوْبَانِ فَيُلْقِي مَا تَنَجَّسَ مِنْ سَاعَتِهِ، فَلِهَذَا أَخَذْنَا فِيهِ بِالْقِيَاسِ وَقُلْنَا: لَا يَبْنِي. قَالَ: (وَإِنْ سَالَ مِنْ دُمَّلٍ بِهِ دَمٌ تَوَضَّأَ وَغَسَلَ وَبَنَى عَلَى صَلَاتِهِ كَمَا لَوْ رَعَفَ) وَمُرَادُهُ مِنْ هَذَا إذَا سَالَ بِغَيْرِ فِعْلِهِ، فَأَمَّا إذَا عَصَرَهُ حَتَّى سَالَ أَوْ كَانَ فِي مَوْضِعِ رُكْبَتَيْهِ فَانْفَتَحَ مِنْ اعْتِمَادِهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ فِي سُجُودِهِ فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ الْحَدَثِ الْعَمْدِ، قَالَ عَلِيٌّ لَا يَبْنِي عَلَى صَلَاتِهِ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ بُنْدُقَةٌ فَشَجَّتْهُ فَسَالَ مِنْهُ دَمٌ لَمْ يَبْنِ عَلَى صَلَاتِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَبْنِي إذَا تَوَضَّأَ؛ لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ لَمَّا طُعِنَ فِي الْمِحْرَابِ اسْتَخْلَفَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، وَلَوْ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ لَفَسَدَتْ صَلَاةُ الْقَوْمِ فَلَمْ يَسْتَخْلِفْهُ، وَلِأَنَّ الْحَدَثَ سَبَقَهُ بِغَيْرِ صُنْعِهِ فَهُوَ كَالْحَدَثِ السَّمَاوِيِّ. (وَلَنَا) أَنَّ الْحَدَثَ كَانَ بِصُنْعِ الْعِبَادِ فَيَمْنَعُهُ كَمَا لَوْ كَانَ بِصُنْعِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْحَدَثَ السَّمَاوِيَّ الْعُذْرُ الْمَانِعُ مِنْ الْمُضِيِّ مِمَّنْ لَهُ الْحَقُّ، وَهُنَا الْعُذْرُ مِنْ غَيْرِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ وَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ، فَإِنَّ الْمَرِيضَ يُصَلِّي قَاعِدًا ثُمَّ لَا يُعِيدُ إذَا بَرَأَ، وَالْمُقَيَّدُ يُصَلِّي قَاعِدًا ثُمَّ تَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ عِنْدَ إطْلَاقِهِ، وَحَدِيثُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ كَانَ قَبْلَ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ لِيَفْتَتِحَ الصَّلَاةَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا طُعِنَ قَالَ آهٍ قَتَلَنِي الْكَلْبُ مَنْ يُصَلِّي بِالنَّاسِ ثُمَّ قَالَ: تَقَدَّمْ يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ، وَهَذَا كَلَامٌ يَمْنَعُ الْبِنَاءَ عَلَى الصَّلَاةِ قَالَ: (وَإِنْ نَامَ فِي صَلَاتِهِ فَاحْتَلَمَ فِي الْقِيَاسِ يَغْتَسِلُ وَيَبْنِي) يُرِيدُ الْقِيَاسَ عَلَى الِاسْتِحْسَانِ فِي الْحَدَثِ الصُّغْرَى وَلَكِنِّي أَسْتَحْسِنُ أَنْ يَسْتَقْبِلَ يُرِيدُ الْعَوْدَ إلَى الْقِيَاسِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ فِي الِاغْتِسَالِ إلَى كَشْفِ الْعَوْرَةِ وَلَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الْوُضُوءِ، وَلِأَنَّ الْمُصَلِّي قَدْ يُبْتَلَى بِالْحَدَثِ الصُّغْرَى عَادَةً فَمِنْ النَّادِرِ أَنْ يُبْتَلَى بِالْحَدَثِ الْمُوجِبِ لِلِاغْتِسَالِ، وَالنَّادِرُ لَيْسَ فِي مَعْنَى مَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى. قَالَ: (وَإِذَا سَقَطَ عَنْ الْمُصَلِّي ثَوْبَهُ فَقَامَ عُرْيَانًا وَهُوَ لَا يَعْلَمُ ثُمَّ تَذَكَّرَ مِنْ سَاعَتِهِ فَتَنَاوَلَ ثَوْبَهُ وَلَبِسَهُ، فَإِنَّهُ يَمْضِي عَلَى صَلَاتِهِ)، وَفِي الْقِيَاسِ يَسْتَقْبِلُ الصَّلَاةَ لِوُجُودِ انْكِشَافِ الْعَوْرَةِ فِي الصَّلَاةِ، وَهُوَ مُنَافٍ لِمَا ابْتَدَأَهَا وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ: الِانْكِشَافُ الْكَثِيرُ فِي الْمُدَّةِ الْيَسِيرَةِ بِمَنْزِلَةِ الِانْكِشَافِ الْيَسِيرِ فِي الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ فَهَذَا مِثْلُهُ، وَهَذَا إذَا لَمْ يُؤَدِّ رُكْنًا وَلَمْ يَمْكُثْ عُرْيَانًا بِقَدْرِ مَا يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنْ أَدَاءِ رُكْنٍ فَإِنْ مَكَثَ عُرْيَانًا ذَلِكَ الْقَدْرَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبْنِيَ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا، وَكَذَلِكَ إنْ سَالَ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ كَثِيرَةٌ وَعَلَيْهِ ثَوْبَانِ، فَإِنْ أَلْقَى النَّجَسَ مِنْ سَاعَتِهِ فَهُوَ عَلَى الْقِيَاسِ، وَالِاسْتِحْسَانُ كَمَا مَرَّ، وَإِنْ أَدَّى رُكْنًا أَوْ مَكَثَ بِقَدْرِ مَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَدَاءِ رُكْنٍ اسْتَقْبَلَ الصَّلَاةَ. قَالَ: (وَإِذَا صَلَّتْ الْمَرْأَةُ وَرُبُعُ سَاقِهَا مَكْشُوفٌ أَعَادَتْ الصَّلَاةَ)، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ لَمْ تُعِدْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا تُعِيدُ حَتَّى يَكُونَ النِّصْفُ مَكْشُوفًا. فَالْحَاصِلُ أَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ فَرْضٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} وَالْمُرَادُ سَتْرُ الْعَوْرَةِ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ لَا لَأَجْلِ النَّاسِ، وَالنَّاسُ فِي الْأَسْوَاقِ أَكْثَرُ مِنْهُمْ فِي الْمَسَاجِدِ، وَرَأْسُ الْمَرْأَةِ عَوْرَةٌ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ امْرَأَةٍ حَائِضٍ إلَّا بِخِمَارٍ» أَيْ صَلَاةَ بَالِغَةٍ، فَإِنَّ الْحَائِضَ لَا تُصَلِّي. ثُمَّ الْقَلِيلُ مِنْ الِانْكِشَافِ عَفْوٌ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ نَظِيرُ الْقَلِيلِ مِنْ النَّجَاسَةِ. وَدَلِيلُنَا فِيهِ ضَرُورَةٌ وَبَلْوًى خُصُوصًا فِي حَقِّ الْفُقَرَاءِ، وَاَلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إلَّا الْخَلِقَ مِنْ الثِّيَابِ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: كُنْتُ أَؤُمُّ أَصْحَابِي يَعْنِي الصِّبْيَانَ عَلَى إزَارٍ مُتَخَرِّقٍ فَكَانُوا يَقُولُونَ لِأُمِّي غَطِّي عَنَّا اسْتَ ابْنِكِ فَدَلَّ أَنَّ الْقَلِيلَ مِنْ الِانْكِشَافِ عَفْوٌ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ وَالْكَثِيرُ يَمْنَعُ، فَقَدَّرَ أَبُو يُوسُفَ ذَلِكَ بِالنِّصْفِ؛ لِأَنَّ الْقِلَّةَ وَالْكَثْرَةَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَرَكَةِ، فَإِنَّ الشَّيْءَ إذَا قُوبِلَ بِمَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْهُ يَكُونُ قَلِيلًا، وَإِذَا قُوبِلَ بِمَا هُوَ أَقَلُّ مِنْهُ يَكُونُ كَثِيرًا، فَإِذَا كَانَ الْمَكْشُوفُ دُونَ النِّصْفِ فَهُوَ فِي مُقَابِلَةِ الْمَسْتُورِ قَلِيلٌ، وَإِذَا كَانَ أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ فَهُوَ فِي مُقَابِلَةِ الْمَسْتُورِ كَثِيرٌ، وَفِي النِّصْفِ سَوَاءٌ رِوَايَتَانِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. فِي إحْدَاهُمَا لَا يَمْنَعُ؛ لِأَنَّ الِانْكِشَافَ الْكَثِيرَ مَانِعٌ وَلَمْ يُوجَدْ. وَفِي الْأُخْرَى اسْتَوَى الْجَانِبُ الْمُفْسِدُ وَالْمُجَوِّزُ فَيُغَلَّبُ الْمُفْسِدُ احْتِيَاطًا لِلْعِبَادَةِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَدَّرَا الْكَثِيرَ بِالرُّبُعِ، فَإِنَّ الرُّبْعَ يَحْكِي الْكَمَالَ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَسْحَ بِرُبُعِ الرَّأْسِ كَالْمَسْحِ بِجَمِيعِهِ، وَمَنْ نَظَرَ إلَى وَجْهِ إنْسَانٍ يَسْتَجِيزُ مِنْ نَفْسِهِ أَنْ يَقُولَ: رَأَيْتُ فُلَانًا، وَإِنَّمَا رَأَى أَحَدَ جَوَانِبِهِ الْأَرْبَعَةِ، وَاَلَّذِي بَيَّنَّا فِي الرَّأْسِ كَذَلِكَ فِي الْبَطْنِ وَالشَّعْرِ وَالْفَخِذِ، فَأَمَّا فِي الْقُبُلِ وَالدُّبُرِ فَقَدْ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ التَّقْدِيرَ فِيهِمَا بِالدِّرْهَمِ دُونَ الرُّبُعِ؛ لِأَنَّهَا عَوْرَةٌ غَلِيظَةٌ فَتُقَاسَ بِالنَّجَاسَةِ الْغَلِيظَةِ، وَهَذَا لَيْسَ بِقَوِيٍّ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا إظْهَارُ مَعْنَى التَّغْلِيظِ؛ لِأَنَّ الدُّبُرَ مُقَدَّرٌ بِالدِّرْهَمِ فَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِ إذَا انْكَشَفَ الدُّبُرُ يَنْبَغِي أَنْ تَجُوزَ الصَّلَاةُ حَتَّى تَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ الدِّرْهَمِ، فَإِنَّ قَدْرَ الدِّرْهَمِ مِنْ الصَّلَاةِ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ حَتَّى يَكُونَ أَكْثَرَ مِنْهُ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ التَّقْدِيرَ بِالرُّبُعِ فِي الْكُلِّ وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي الزِّيَادَاتِ. قَالَ: (وَإِذَا صَلَّتْ وَشَيْءٌ مِنْ رَأْسِهَا وَشَيْءٌ مِنْ بَطْنِهَا وَشَيْءٌ مِنْ عَوْرَتِهَا بَادٍ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ إذَا جُمِعَ بَلَغَ قَدْرَ رُبُعِ عُضْوٍ يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ) وَإِلَّا فَلَا. قَالَ: (وَتَقْعُدُ الْمَرْأَةُ فِي صَلَاتِهَا كَأَسْتَرِ مَا يَكُونُ لَهَا) لِمَا رَوَيْنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «قَالَ لِتِلْكَ الْمَرْأَةَ: ضُمِّي بَعْضَ اللَّحْمِ إلَى الْأَرْضِ»، وَلِأَنَّ مَبْنَى حَالِهَا عَلَى التَّسَتُّرِ فِي خُرُوجِهَا، فَكَذَلِكَ فِي صَلَاتِهَا يَنْبَغِي أَنْ تَتَسَتَّرَ بِقَدْرِ مَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «الْمَرْأَةُ عَوْرَةٌ مَسْتُورَةٌ». قَالَ: (رَجُلٌ دَعَا فِي صَلَاتِهِ فَسَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى- الرِّزْقَ وَالْعَافِيَةَ لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {اُدْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} وَقَالَ: عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «وَأَمَّا فِي سُجُودِكُمْ فَاجْتَهِدُوا بِالدُّعَاءِ، فَإِنَّهُ قَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ» وَحَاصِلُ الْمَذْهَبِ عِنْدَنَا أَنَّهُ إذَا دَعَا فِي صَلَاتِهِ بِمَا فِي الْقُرْآنِ أَوْ بِمَا يُشْبِهُ مَا فِي الْقُرْآنِ لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ دَعَا بِمَا يُشْبِهُ كَلَامَ النَّاسِ نَحْوَ قَوْلِهِمْ: اللَّهُمَّ أَلْبِسْنِي ثَوْبًا اللَّهُمَّ زَوِّجْنِي فُلَانَةَ تَفْسُدُ صَلَاتُهُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ إذَا دَعَا فِي صَلَاتِهِ بِمَا يُبَاحُ لَهُ أَنْ يَدْعُوَ بِهِ خَارِجَ الصَّلَاةِ لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ «سَلُوا اللَّهَ حَوَائِجَكُمْ حَتَّى الشِّسْعَ لِنِعَالِكُمْ وَالْمِلْحَ لِقُدُورِكُمْ»، وَإِنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فِي حُرُوبِهِ كَانَ يَقْنُتُ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ يَدْعُو عَلَى مَنْ نَاوَاهُ. (وَلَنَا) حَدِيثُ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ فَقَدْ جَعَلَ قَوْلَهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ مِنْ جِنْسِ كَلَامِ النَّاسِ، وَقَالَ: إنَّ صَلَاتَنَا هَذِهِ لَا يَصْلُحُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ فَهُوَ كَلَامُهُمْ، وَإِنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ رَأَى ابْنًا لَهُ يَدْعُو فِي صَلَاته فَقَالَ: إيَّاكَ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْمُعْتَدِينَ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَعْتَدُونَ فِي الدُّعَاءِ وَتَلَا قَوْله تَعَالَى {إنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} ثُمَّ قَالَ أَمَا يَكْفِيَكَ أَنْ تَقُولَ اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَمَا قَرَّبَ إلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ وَأَعُوذُ بِك مِنْ النَّارِ وَمَا قَرَّبَ إلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ» وَلَا حُجَّةَ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يُسَوِّغُوا لَهُ ذَلِكَ الِاجْتِهَادَ حَتَّى كَتَبَ إلَيْهِ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَمَّا بَعْدُ، فَإِذَا أَتَاكَ كِتَابِي فَأَعِدْ صَلَاتَكَ. وَفِي الْأَصْلِ قَالَ: أَرَأَيْتَ لَوْ أَنْشَدَ شِعْرًا أَمَا كَانَ مُفْسِدًا لِصَلَاتِهِ، وَمِنْ الشَّعْرِ مَا هُوَ ذِكْرٌ نَحْوُ قَوْلِ الْقَائِلِ: قَالَ: (وَإِذَا مَرَّ الْمُصَلِّي بِآيَةٍ فِيهَا ذِكْرُ الْجَنَّةِ فَوَقَفَ عِنْدَهَا وَسَأَلَ، أَوْ بِآيَةٍ فِيهَا ذِكْرُ النَّارِ فَوَقَفَ عِنْدَهَا وَتَعَوَّذَ بِاَللَّهِ مِنْهَا فَهُوَ حَسَنٌ فِي التَّطَوُّعِ إذَا كَانَ وَحْدَهُ) لِحَدِيثِ «حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فَمَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا ذِكْرُ الْجَنَّةِ إلَّا وَقَفَ وَسَأَلَ اللَّهَ الْجَنَّةَ، وَمَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا ذِكْرُ النَّارِ إلَّا وَقَفَ وَتَعَوَّذَ بِاَللَّهِ جَلَّ وَعَلَا، وَمَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا مَثَلٌ إلَّا وَقَفَ وَتَفَكَّرَ»، فَأَمَّا إذَا كَانَ إمَامًا كَرِهْتُ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَفْعَلْهُ فِي الْمَكْتُوبَاتِ، وَالْأَئِمَّةُ بَعْدَهُ إلَى يَوْمِنَا هَذَا، فَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُحْدَثَاتِ، وَرُبَّمَا يَمَلُّ الْقَوْمُ بِمَا يَصْنَعُ وَذَلِكَ مَكْرُوهٌ، وَلَكِنْ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ لِأَنَّهُ لَا يَزِيدُ فِي خُشُوعِهِ، وَالْخُشُوعُ زِينَةُ الصَّلَاةِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ خَلْفَ الْإِمَامِ، فَإِنَّهُ يَسْتَمِعُ وَيُنْصِتُ؛ لِأَنَّ الْقَوْمَ بِالِاسْتِمَاعِ أُمِرُوا وَإِلَى الْإِنْصَاتِ نُدِبُوا وَعَلَى هَذَا وُعِدُوا الرَّحْمَةَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}. وَيَتَرَتَّبُ هَذَا الْفَصْلُ عَلَى اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي قِرَاءَةِ الْمُقْتَدِي خَلْفَ الْإِمَامِ، فَالْمَذْهَبُ عِنْدَ أَهْلُ الْكُوفَةِ أَنَّهُ لَا يَقْرَأُ فِي شَيْءٍ مِنْ الصَّلَوَاتِ، وَعِنْدَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مِنْهُمْ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَلَا يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقْرَأُ فِي كُلِّ صَلَاةٍ إلَّا أَنَّ فِي صَلَاةِ الْجَهْرِ أَوَانَ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ مِنْهَا، فَإِنَّ الْإِمَامَ يُنْصِتُ حَتَّى يَقْرَأَ الْمُقْتَدِي الْفَاتِحَةَ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا صَلَاةَ إلَّا بِقِرَاءَةٍ» وَفِي حَدِيثِ «عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: صَلَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الصُّبْحِ فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: لَعَلَّكُمْ تَقْرَؤُنَّ خَلْفِي، فَقُلْنَا: نَعَمْ، فَقَالَ: لَا تَقْرَؤُنَّ إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، فَإِنَّهُ لَا صَلَاةَ إلَّا بِهَا، وَفِي رِوَايَةٍ لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْهَا» وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْقِرَاءَةَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ، فَلَا تَسْقُطُ بِسَبَبِ الِاقْتِدَاءِ عِنْدَ الِاخْتِيَارِ كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَدْرَكَ الْإِمَامُ فِي الرُّكُوعِ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْحَالَةَ حَالَةُ الضَّرُورَةِ، فَإِنَّهُ يَخَافُ فَوْتَ الرَّكْعَةِ بِسَبَبِ الضَّرُورَةِ قَدْ تَسْقُطُ بَعْضُ الْأَرْكَانِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْقِيَامَ بَعْدَ التَّكْبِيرِ رُكْنٌ، وَقَدْ يَسْقُطُ هَذَا لِلضَّرُورَةِ. (وَلَنَا) قَوْله تَعَالَى {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} وَأَكْثَرُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ عَلَى أَنَّ هَذَا خِطَابٌ لِلْمُقْتَدِي وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى حَالِ الْخُطْبَةِ وَلَا تَنَافِي بَيْنَهُمَا فَفِيهِ بَيَانُ الْأَمْرِ بِالِاسْتِمَاعِ وَالْإِنْصَاتِ فِي حَالَةِ الْخُطْبَةِ لِمَا فِيهَا مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَ لَهُ إمَامٌ فَقِرَاءَةُ الْإِمَامِ لَهُ قِرَاءَةٌ» وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ، وَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وَإِذَا قَرَأَ فَأَنْصِتُوا وَمَنْعُ الْمُقْتَدِي مِنْ الْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ مَرْوِيٌّ عَنْ ثَمَانِينَ نَفَرًا مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ، وَقَدْ جَمَعَ أَسَامِيَهُمْ أَهْلُ الْحَدِيثِ. وَقَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ مَنْ قَرَأَ خَلْفَ الْإِمَامِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْقِرَاءَةَ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ لِعَيْنِهَا بَلْ لِلتَّدَبُّرِ وَالتَّفَكُّرِ وَالْعَمَلِ بِهِ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أُنْزِلَ الْقُرْآنُ لِيُعْمَلَ بِهِ، فَاِتَّخَذَ النَّاسُ تِلَاوَتَهُ عَمَلًا، وَحُصُولُ هَذَا الْمَقْصُودِ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْإِمَامِ وَسَمَاعُ الْقَوْمِ، فَإِذَا اشْتَغَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِالْقِرَاءَةِ لَا يَتِمُّ هَذَا الْمَقْصُودُ، وَهَذَا نَظِيرُ الْخُطْبَةِ فَالْمَقْصُودُ مِنْهَا الْوَعْظُ وَالتَّدَبُّرُ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَخْطُبَ الْإِمَامُ وَيَسْتَمِعَ الْقَوْمُ لَا أَنْ يَخْطُبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لِنَفْسِهِ، دَلَّ عَلَيْهِ إذَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي حَالَةِ الرُّكُوعِ، فَإِنْ خَافَ فَوْتَ الرَّكْعَةِ سَقَطَ عَنْهُ فَرْضُ الْقِرَاءَةِ، وَلَوْ كَانَ مِنْ الْأَرْكَانِ فِي حَقِّ الْمُقْتَدِي لَمَا سَقَطَ بِهَذَا الْعُذْرِ كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَلَا يُقَالُ إنَّ رُكْنَ الْقِيَامِ يَسْقُطُ، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُكَبِّرَ قَائِمًا، وَفَرْضُ الْقِيَامِ يَتَأَدَّى بِأَدْنَى مَا يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي الْحَدِيثِ، فَإِنَّهُ بِقِرَاءَةِ الْإِمَامِ تَصِيرُ صَلَاةُ الْقَوْمِ بِالْقِرَاءَةِ، كَمَا أَنَّ بِخُطْبَةِ الْإِمَامِ تَصِيرُ صَلَاتُهُمْ جَمِيعًا بِالْخُطْبَةِ، وَحَدِيثُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ رُكْنًا فِي الِابْتِدَاء، ثُمَّ مَنَعَهُمْ عَنْ الْقِرَاءَةِ خَلْفَهُ بَعْدَ ذَلِكَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا سَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ خَلْفَهُ قَالَ مَالِي أُنَازَعُ فِي الْقُرْآنِ. وَالْقِرَاءَةُ مُخَالِفَةٌ لِسَائِرِ الْأَرْكَانِ فَمَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِهَا لَا يَحْصُلُ بِفِعْلِ الْإِمَامِ، بِخِلَافِ الْقِرَاءَةِ عَلَى مَا مَرَّ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا، فَإِنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ أَأَقْرَأُ خَلْفَ الْإِمَامِ. ؟ فَقَالَ لَهُ: أَمَّا فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فَنَعَمْ. قَالَ: (وَإِذَا مَرَّتْ الْخَادِمُ بَيْنَ يَدَيْ الْمُصَلِّي فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ أَوْ أَوْمَأَ بِيَدِهِ لِيَصْرِفَهَا لَمْ تُقْطَعْ صَلَاتُهُ) لِمَا رَوَيْنَا «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشَارَ عَلَى زَيْنَبَ فَلَمْ تَقِفْ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا نَابَتْ أَحَدَكُمْ نَائِبَةٌ فَلْيُسَبِّحْ، فَإِنَّ التَّسْبِيحَ لِلرِّجَالِ وَالتَّصْفِيقَ لِلنِّسَاءِ» قَالَ فِي الْكِتَابِ وَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ لَا يَفْعَلَ مَعْنَاهُ وَلَا يَجْمَعَ بَيْنَ التَّسْبِيحِ وَالْإِشَارَةِ بِالْيَدِ، فَإِنَّ لَهُ بِأَحَدِهِمَا كِفَايَةً فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْمُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَفْعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَتَأْوِيلُ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ فِي وَقْتٍ كَانَ الْعَمَلُ فِيهِ مُبَاحًا فِي الصَّلَاةِ، فَإِنْ أُسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ إنْسَانٌ فَسَبَّحَ وَأَرَادَ إعْلَامَهُ أَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ لِحَدِيثِ «عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ لِي مَدْخَلَانِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كُلِّ يَوْمٍ بِأَيِّهِمَا شِئْتُ دَخَلْتُ، فَكُنْتُ إذَا أَتَيْتُ الْبَابَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الصَّلَاةِ فَتَحَ الْبَابَ فَدَخَلْتُ، وَإِنْ كَانَ فِي الصَّلَاةِ رَفَعَ صَوْتَهُ بِالْقِرَاءَةِ فَانْصَرَفْتُ» وَلِأَنَّهُ قَصَدَ بِهَذَا صِيَانَةً، وَلَوْ لَمْ يَفْعَلْ رُبَّمَا يُلِحُّ الْمُسْتَأْذِنُ حَتَّى يُبْتَلَى هُوَ بِالْغَلَطِ فِي الْقِرَاءَةِ، وَإِنْ أُخْبِرَ بِخَبَرٍ يَسُوءُهُ فَاسْتَرْجَعَ لِذَلِكَ، فَإِنْ أَرَادَ جَوَابَهُ قَطَعَ صَلَاتَهُ، وَإِنْ لَمْ يُرِدْ جَوَابَهُ لَمْ يَقْطَعْ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْكَلَامِ مَحْمُولٌ عَلَى قَصْدِ التَّكَلُّمِ، فَإِذَا أَرَادَ بِهِ الْجَوَابَ كَانَ جَوَابًا، وَمَعْنَى اسْتِرْجَاعِهِ أَعِينُونِي فَإِنِّي مُصَابٌ، وَلَوْ صَرَّحَ بِهَذَا لَمْ يَشْكُلْ فَسَادُ صَلَاتِهِ فَكَذَلِكَ إذَا أَرَادَهُ بِالِاسْتِرْجَاعِ، وَإِذَا أُخْبِرَ بِخَبَرٍ يَسُرُّهُ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَوْ أُخْبِرَ بِمَا يُتَعَجَّبُ مِنْهُ فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَأَرَادَ جَوَابَ الْمُخْبِرِ فَقَدْ قَطَعَ صَلَاتَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ التَّحْمِيدُ وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ الْجَوَابَ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إنَّمَا هِيَ لِلتَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ» فَمَا تَلَفَّظَ بِهِ شُرِعَتْ الصَّلَاةُ لِأَجْلِهِ، فَلَوْ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ إنَّمَا تَفْسُدُ بِنِيَّتِهِ، وَمُجَرَّدُ نِيَّةِ الْكَلَامِ غَيْرُ مُفْسِدٍ. وَلَمْ يَذْكُرْ خِلَافَ أَبِي يُوسُفَ فِي مَسْأَلَةِ الِاسْتِرْجَاعِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْكُلَّ عَلَى الْخِلَافِ، وَمَنْ سَلَّمَ قَالَ: الِاسْتِرْجَاعُ إظْهَارُ الْمُصِيبَةِ وَمَا شُرِعَتْ الصَّلَاةُ لِأَجْلِهِ، وَالتَّحْمِيدُ إظْهَارُ الشُّكْرِ وَالصَّلَاةُ شُرِعَتْ لِأَجْلِهِ. (وَلَنَا) قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ سَبَّحَ مِنْ غَيْرِ غَضَبٍ وَلَا عَجَبٍ فَلَهُ مِنْ الْأَجْرِ كَذَا» وَإِنَّمَا جَعَلَهُ مُسَبِّحًا إذَا لَمْ يَقْصِدْ بِهِ التَّعَجُّبَ فَثَبَتَ لَهُ أَنَّهُ إذَا قَصَدَ بِهِ التَّعَجُّبَ كَانَ مُتَعَجِّبًا لَا مُسَبِّحًا، وَهَذَا لِأَنَّ الْكَلَامَ مَبْنِيٌّ عَلَى غَرَضِ الْمُتَكَلِّمِ، فَمَنْ رَأَى رَجُلًا اسْمُهُ يَحْيَى وَبَيْنَ يَدَيْهِ كِتَابٌ فَقَالَ: يَا يَحْيَى خُذْ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَأَرَادَ بِهِ خِطَابَهُ لَمْ يَشْكُلْ عَلَى أَحَدٍ أَنَّهُ مُتَكَلِّمٌ لَا قَارِئٌ، وَإِذَا قِيلَ لِلْمُصَلِّي: بِأَيِّ مَوْضِعٍ مَرَرْت فَقَالَ: بِبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ وَأَرَادَ الْجَوَابَ لَا يَشْكُلُ أَنَّهُ مُتَكَلِّمٌ بِهِ، وَإِذَا أَنْشَدَ شِعْرًا فِيهِ ذَكَرُ اسْمِ اللَّهِ لَمْ يَشْكُلْ أَنَّهُ كَانَ مُنْشِدًا لَا ذَاكِرًا حَتَّى تَفْسُدَ صَلَاتُهُ، فَكَذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ. قَالَ: (وَإِذَا قَرَأَ فِي صَلَاتِهِ فِي الْمُصْحَفِ فَسَدَتْ صَلَاتُهُ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- صَلَاتُهُ تَامَّةٌ، وَيُكْرَهُ ذَلِكَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يُكْرَهُ لِحَدِيثِ ذَكْوَانَ مَوْلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا أَنَّهُ كَانَ يَؤُمُّهَا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَكَانَ يَقْرَأُ فِي الْمُصْحَفِ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إلَّا حَمْلُ الْمُصْحَفِ بِيَدِهِ وَالنَّظَرُ فِيهِ، وَلَوْ حَمَلَ شَيْئًا آخَرَ لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ، فَكَذَلِكَ الْمُصْحَفُ إلَّا أَنَّهُمَا كَرِهَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ تَشَبُّهٌ بِفِعْلِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ مَا نُهِينَا عَنْ التَّشَبُّهِ بِهِمْ فِي كُلِّ شَيْءٍ فَإِنَّا نَأْكُلُ كَمَا يَأْكُلُونَ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى طَرِيقَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ حَمْلَ الْمُصْحَفِ وَتَقْلِيبَ الْأَوْرَاقِ وَالنَّظَرَ فِيهِ وَالتَّفَكُّرَ فِيهِ لِيَفْهَمَ عَمَلٌ كَثِيرٌ وَهُوَ مُفْسِدٌ لِلصَّلَاةِ، كَالرَّمْيِ بِالْقَوْسِ فِي صَلَاتِهِ وَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ يَقُولُ: إذَا كَانَ الْمُصْحَفُ مَوْضُوعًا بَيْنَ يَدَيْهِ أَوْ قَرَأَ بِمَا هُوَ مَكْتُوبٌ عَلَى الْمِحْرَابِ لَمْ تَفْسُدْ صَلَاتُهُ. وَالْأَصَحُّ أَنْ يَقُولَ: إنَّهُ يُلَقَّنُ مِنْ الْمُصْحَفِ فَكَأَنَّهُ تَعَلَّمَ مِنْ مُعَلِّمٍ وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِصَلَاتِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ يَأْخُذُ مِنْ الْمُصْحَفِ يُسَمَّى صُحُفِيًّا، وَمِنْ لَا يُحْسِنُ قِرَاءَةَ شَيْءٍ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِهِ يَكُونُ أُمِّيًّا يُصَلِّي بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ فَدَلَّ أَنَّهُ مُتَعَلِّمٌ مِنْ الْمُصْحَفِ، وَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَوْضُوعًا بَيْنَ يَدَيْهِ أَوْ فِي يَدَيْهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِحَدِيثِ ذَكْوَانَ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ مِنْ الْمُصْحَفِ فِي الصَّلَاةِ، إنَّمَا الْمُرَادُ بَيَانُ حَالِهِ أَنَّهُ كَانَ لَا يَقْرَأُ جَمِيعَ الْقُرْآنِ عَنْ ظَهْرِ الْقَلْبِ، وَالْمَقْصُودُ بَيَانُ أَنَّ قِرَاءَةَ جَمِيعِ الْقُرْآنِ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ لَيْسَ بِفَرْضٍ. قَالَ: (رَجُلٌ صَلَّى وَمَعَهُ جِلْدُ مَيْتَةٍ مَدْبُوغٍ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ عِنْدَنَا) وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ وَلَا يُنْتَفَعُ عِنْدَهُ بِجِلْدِ الْمَيْتَةِ، وَإِنْ كَانَ مَدْبُوغًا إلَّا فِي الْجَامِدِ مِنْ الْأَشْيَاءِ، وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ «عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَكَمِ اللَّيْثِيِّ قَالَ: أَتَانَا كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِسَبْعَةِ أَيَّامٍ، وَفِيهِ لَا تَنْتَفِعُوا مِنْ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ». (وَلَنَا) قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ» وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ الدِّبَاغَةِ، قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: الْإِهَابُ اسْمُ الْجِلْدِ لَمْ يُدْبَغْ، فَإِذَا دُبِغَ يُسَمَّى أَدِيمًا، ثُمَّ الْمُحَرَّمُ بِالْمَوْتِ مَا يَدْخُلُ تَحْتَ مَصْلَحَةِ الْأَكْلِ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّمَا حُرِّمَ مِنْ الْمَيْتَةِ أَكْلُهَا» وَبِالدِّبَاغِ خَرَجَ الْجِلْدُ مِنْ أَنْ يَكُونَ صَالِحًا لِلْأَكْلِ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ نَجَاسَتَهُ بِمَا اتَّصَلَ بِهِ مِنْ الدُّسُومَاتِ النَّجِسَةِ، وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ بِالدِّبَاغِ فَصَارَ طَاهِرًا كَالْخَمْرِ تَخَلَّلَ، وَأَصَحُّ مَا قِيلَ فِي حَدِّ الدَّبَّاغِ عِنْدَنَا مَا يَعْصِمُهُ مِنْ النَّتْنِ وَالْفَسَادِ، حَتَّى إذَا شَمَّسَهُ أَوْ تَرَّبَهُ كَانَ ذَلِكَ دِبَاغًا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ لَا يَكُونُ دِبَاغًا إلَّا بِمَا يُزِيلُ الدُّسُومَاتِ النَّجِسَةَ عَنْهُ، وَذَلِكَ بِاسْتِعْمَالِ الشَّبِّ وَالْقَرْضِ وَالْعَفْصِ (وَدَلِيلُنَا) فِيهِ أَنَّ الْمَقْصُودَ إخْرَاجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ صَالِحًا لِمَنْفَعَةِ الْأَكْلِ، وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَى فِيهِ الدُّسُومَاتُ النَّجِسَةُ، فَإِنَّهَا لَوْ بَقِيَتْ فِيهِ لَأَنْتَنَ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ، وَكَذَلِكَ جُلُودُ السِّبَاعِ عِنْدَنَا مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وَمَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ لَا يَطْهُرُ جِلْدُهُ بِالدِّبَاغِ، وَقَاسَ بِجِلْدِ الْخِنْزِيرِ وَالْآدَمِيِّ. (وَلَنَا) عُمُومُ الْحَدِيثِ أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ وَمَا طَهُرَ مِنْ لُبْسِ النَّاسِ كَجِلْدِ الثَّعْلَبِ وَالْفِيلِ وَالسَّمُّورِ وَنَحْوِهَا فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِ الصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرِ مُنْكِرٍ يَدُلُّ عَلَى طَهَارَتِهِ بِالدِّبَاغِ، فَأَمَّا جِلْدُ الْخِنْزِيرِ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ أَيْضًا، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَا يَحْتَمِلُ الدِّبَاغَةَ، فَإِنَّ لَهُ جُلُودًا مُتَرَادِفَةً بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ كَمَا لِلْآدَمِيِّ، وَإِنَّمَا لَا يَطْهُرُ لِعَدَمِ احْتِمَالِهِ الْمُطَهِّرَ وَهُوَ الدِّبَاغُ، أَوْ لِأَنَّ عَيْنَهُ نَجِسٌ وَجِلْدَهُ مِنْ عَيْنِهِ، فَأَمَّا فِي سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ النَّجَسُ مَا اتَّصَلَ بِالْعَيْنِ مِنْ الدُّسُومَاتِ، وَعَلَى هَذَا جِلْدُ الْكَلْبِ يَطْهُرُ عِنْدَنَا بِالدِّبَاغِ، وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَطْهُرُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ؛ لِأَنَّ عَيْنَ الْكَلْبِ نَجِسٌ عِنْدَهُمَا، وَلَكِنَّا نَقُولُ الِانْتِفَاعُ بِهِ مُبَاحٌ فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ، فَلَوْ كَانَ عَيْنُهُ نَجِسًا لَمَا أُبِيحَ الِانْتِفَاعُ بِهِ، فَإِنْ كَانَ الْجِلْدُ غَيْرَ مَدْبُوغٍ فَصَلَّى فِيهِ أَوْ صَلَّى وَمَعَهُ شَيْءٌ كَثِيرٌ مِنْ لَحْمِ الْمَيْتَةِ فَصَلَاتُهُ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّهُ حَامِلٌ لِلنَّجَاسَةِ، وَإِنْ صَلَّى وَمَعَهُ شَيْءٌ مِنْ أَصْوَافِهَا وَشُعُورِهَا أَوْ عَظْمٍ مِنْ عِظَامِهَا فَصَلَاتُهُ تَامَّةٌ عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فِيهِمَا حَيَاةٌ، وَقَالَ مَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فِي الْعَظْمِ حَيَاةٌ دُونَ الشَّعْرِ وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} وَلِأَنَّهُ يَنْمُو بِتَمَادِي الرُّوحِ فَكَانَ فِيهِ حَيَاةٌ فَيُحِلُّهُ الْمَوْتُ فَيَتَنَجَّسُ بِهِ وَمَالِكٌ يَقُولُ: الْعَظْمُ يَتَأَلَّمُ وَيَظْهَرُ ذَلِكَ فِي السِّنِّ بِخِلَافِ الشَّعْرِ. (وَلَنَا) أَنَّهُ مُبَانٌ مِنْ الْحَيِّ فَلَا يَتَأَلَّمُ بِهِ وَيَجُوزُ الِانْتِفَاعُ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا أُبِينَ مِنْ الْحَيِّ فَهُوَ مَيِّتٌ» فَلَوْ كَانَ فِيهِ حَيَاةٌ لَمَا جَازَ الِانْتِفَاعُ بِهِ، وَلَا نَقُولُ: إنَّ الْعَظْمَ يَتَأَلَّمُ بَلْ مَا هُوَ مُتَّصِلٌ بِهِ، فَاللَّحْمُ يَتَأَلَّمُ، وَبَيْنَ النَّاسِ كَلَامٌ فِي السِّنِّ أَنَّهُ عَظْمٌ أَوْ طَرَفُ عَصَبٍ يَابِسٍ، فَإِنَّ الْعَظْمَ لَا يَحْدُثُ فِي الْبَدَنِ بَعْدَ الْوِلَادَةِ، وَتَأْوِيلُ قَوْله تَعَالَى {مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} أَيْ النُّفُوسَ، وَفِي الْعَصَبِ رِوَايَتَانِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ فِيهَا حَيَاةٌ لِمَا فِيهَا مِنْ الْحَرَكَةِ وَيُنَجَّسُ بِالْمَوْتِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَتَأَلَّمُ الْحَيُّ بِقَطْعِهِ، بِخِلَافِ الْعَظْمِ فَإِنَّ قَطْعَ قَرْنِ الْبَقَرَةِ لَا يُؤْلِمُهَا، فَدَلَّ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْعِظَامِ حَيَاةٌ فَلَا يَتَنَجَّسُ بِالْمَوْتِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ «مَرَّ بِشَاةٍ مُلْقَاةٍ لِمَيْمُونَةَ فَقَالَ: هَلَّا انْتَفَعْتُمْ بِإِهَابِهَا، فَقِيلَ: إنَّهَا مَيِّتَةُ فَقَالَ: إنَّمَا حُرِّمَ مِنْ الْمَيْتَةِ أَكْلُهَا» وَهَذَا نَصٌّ عَلَى أَنَّ مَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ مَصْلَحَةِ الْأَكْلِ لَا يَتَنَجَّسُ بِالْمَوْتِ. وَعَلَى هَذَا شَعْرُ الْآدَمِيِّ طَاهِرٌ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ حَلَقَ شَعْرَهُ قَسَمَ شَعْرَهُ أَصْحَابُهُ، فَلَوْ كَانَ نَجِسًا لَمَا جَازَ لَهُمْ التَّبَرُّكُ بِهِ، وَلَكِنْ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ لِحُرْمَتِهِ لَا لِنَجَاسَتِهِ، وَكَذَلِكَ عَظْمُهُ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ لِحُرْمَتِهِ، وَاَلَّذِي قِيلَ إذَا طُحِنَ سِنُّ الْآدَمِيِّ مَعَ الْحِنْطَةِ لَمْ يُؤْكَلْ، وَذَلِكَ لِحُرْمَةِ الْآدَمِيِّ لَا لِنَجَاسَتِهِ. فَأَمَّا الْخِنْزِيرُ فَهُوَ نَجِسُ الْعَيْنِ عَظْمُهُ وَعَصَبُهُ فِي النَّجَاسَةِ كَلَحْمِهِ، فَأَمَّا شَعْرُهُ فَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ لِلْخَرَّازِ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ، وَفِي طَهَارَتِهِ عَنْهُ رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَةٍ طَاهِرٌ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- أَنَّهُ طَاهِرٌ لَمَّا كَانَ الِانْتِفَاعُ بِهِ جَائِزًا وَلِهَذَا جَوَّزَ أَبُو حَنِيفَةَ بَيْعَهُ؛ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ لَا يَتَأَدَّى بِهِ إلَّا بَعْدَ الْمِلْكِ وَهُوَ نَجِسٌ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالضَّرُورَةِ لَا يَعْدُوا مَوْضِعَهَا، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ أَلْحَقَ الْفِيلَ بِالْخِنْزِيرِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ كَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ عَظْمُهُ طَاهِرٌ، وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ ثَوْبَانَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتَرَى لِفَاطِمَةَ سِوَارَيْنِ مِنْ عَاجٍ» وَظَهَرَ اسْتِعْمَالُ النَّاسِ الْعَاجَ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ فَدَلَّ عَلَى طَهَارَتِهِ. قَالَ: (رَجُلٌ صَلَّى وَقُدَّامُهُ عَذِرَةٌ قَالَ: لَا يُفْسِدُ ذَلِكَ صَلَاتَهُ)؛ لِأَنَّ شَرْطَ الصَّلَاةِ طَهَارَةُ مَكَانِ الصَّلَاةِ، وَقَدْ وُجِدَ فَالنَّجَاسَةُ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ لَا تَضُرُّهُ، وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَبْعُدَ مِنْ مَوْضِعِ النَّجَاسَةِ عِنْدَ أَدَاءِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ لِمَكَانِ الصَّلَاةِ حُرْمَةً فَيُخْتَارُ لَهَا أَقْرَبُ الْأَمَاكِنِ إلَى الْحُرْمَةِ، وَإِنْ كَانَتْ النَّجَاسَةُ فِي مَوْضِعِ قِيَامِهِ فَصَلَاتُهُ فَاسِدَةٌ إذَا كَانَتْ كَثِيرَةً؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ رُكْنٌ فَلَا يَتَأَدَّى عَلَى مَكَان نَجِسٍ، وَكَوْنُهُ عَلَى النَّجَاسَةِ كَكَوْنِ النَّجَاسَةِ عَلَيْهِ فِي إفْسَادِ الصَّلَاةِ، فَإِنْ كَانَتْ النَّجَاسَةُ فِي مَوْضِعِ سُجُودِهِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْهُ أَنَّ صَلَاتَهُ جَائِزَةٌ، وَوَجْهُهُ أَنَّ فَرْضَ السُّجُودِ يَتَأَدَّى بِوَضْعِ الْأَرْنَبَةِ عَلَى الْأَرْضِ عِنْدَهُ وَذَلِكَ دُونَ مِقْدَارِ الدِّرْهَمِ. وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ السُّجُودَ فَرْضٌ، فَإِذَا وَضَعَ الْجَبْهَةَ وَالْأَنْفَ تَأَدَّى الْفَرْضُ بِالْكُلِّ كَمَا إذَا طَوَّلَ الْقِرَاءَةَ أَوْ طَوَّلَ الرُّكُوعَ كَانَ مُؤَدِّيًا لِلْفَرْضِ، وَأَدَاءُ الْكُلِّ بِالْفَرْضِ فِي الْمَكَانِ النَّجَسِ لَا يَجُوزُ، وَالْجَبْهَةُ وَالْأَنْفُ أَكْثَرُ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ إذَا سَجَدَ عَلَى مَكَان نَجِسٍ ثُمَّ أَعَادَ عَلَى مَكَان طَاهِرٍ جَازَ، وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ. وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ السَّجْدَةَ قَدْ فَسَدَتْ بِأَدَائِهَا عَلَى مَكَان نَجِسٍ، وَالصَّلَاةُ الْوَاحِدَةُ لَا تَتَجَزَّأُ، فَإِذَا فَسَدَ بَعْضُهَا فَسَدَ كُلُّهَا كَمَا لَوْ أَقَامَ عَلَى النَّجَاسَةِ عِنْدَ التَّحْرِيمِ. وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الرُّكْنَ لَا يَتَأَدَّى عَلَى مَكَان نَجِسٍ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يُؤَدِّهَا أَصْلًا حَتَّى أَدَّاهَا عَلَى مَكَان طَاهِرٍ، وَهَكَذَا نَقُولُ: إذَا كَانَ عِنْدَ التَّحَرُّمِ عَلَى مَكَان نَجِسٍ يَصِيرُ كَأَنَّهُ لَمْ يَتَحَرَّمْ لِلصَّلَاةِ أَصْلًا حَتَّى لَوْ كَانَ مُتَطَوِّعًا لَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ، وَإِنْ كَانَتْ النَّجَاسَةُ فِي مَوْضِعِ الْكَفَّيْنِ أَوْ الرُّكْبَتَيْنِ جَازَتْ صَلَاتَهُ عِنْدَنَا، وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا تُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّ أَدَاءَ السَّجْدَةِ بِوَضْعِ الْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ وَالْوَجْهِ جَمِيعًا فَكَانَتْ النَّجَاسَةُ فِي مَوْضِعِ الرُّكْبَتَيْنِ كَهِيَ فِي مَوْضِعِ الْوَجْهِ، فَأَكْثَرُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ لَهُ بُدًّا مِنْ مَوْضِعِ الْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ، وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ لَا إذَا وَضَعَ يَدَهُ عَلَى الْمَكَانِ النَّجِسِ، كَمَا لَوْ لَبِسَ ثَوْبَيْنِ بِأَحَدِهِمَا نَجَاسَةٌ كَثِيرَةٌ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ وَلَهُ بُدٌّ مِنْ لُبْسِ الثَّوْبِ النَّجِسِ كَمَا بِالِاكْتِفَاءِ بِثَوْبٍ وَاحِدٍ. (وَلَنَا) أَنَّ وَضْعَ الْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ عَلَى مَكَان نَجِسٍ كَتَرْكِ الْوَضْعِ أَصْلًا، وَتَرْكُ وَضْعِ الْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ فِي السُّجُودِ لَا يَمْنَعُ الْجَوَازَ كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا مِثْلُ الَّذِي يُصَلِّي وَهُوَ عَاقِصٌ شَعْرَهُ كَمَثَلِ الَّذِي يُصَلِّي وَهُوَ مَكْتُوفٌ، وَبِهِ فَارَقَ الْوَجْهَ، فَإِنَّ تَرْكَ الْوَضْعِ فِيهِ يَمْنَعُ جَوَازَ السُّجُودِ، بِخِلَافِ الثَّوْبَيْنِ فَإِنَّ اللَّابِسَ لِلثَّوْبِ مُسْتَعْمِلٌ لَهُ، فَإِذَا كَانَ نَجِسًا كَانَ حَامِلًا لِلنَّجَاسَةِ، فَلِهَذَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ كَمَا لَوْ كَانَ يُمْسِكُهُ بِيَدِهِ، وَالْمُصَلِّي لَيْسَ بِحَامِلٍ لِلْمَكَانِ حَتَّى تَفْسُدَ صَلَاتُهُ بِهَذَا الطَّرِيقِ بَلْ الطَّرِيقُ مَا قُلْنَاهُ أَنَّ مَا وَضَعَهُ عَلَى مَكَان نَجِسٍ يُجْعَلُ كَأَنَّهُ لَمْ يَضَعْهُ أَصْلًا. قَالَ: (رَجُلٌ صَلَّى عَلَى مَكَان مِنْ الْأَرْضِ قَدْ كَانَ فِيهِ نَجَاسَةٌ فَجَفَّتْ وَذَهَبَ أَثَرُهَا جَازَتْ صَلَاتُهُ عِنْدَنَا) وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا تُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ طَهَارَةُ الْمَكَانِ وَلَمْ يُوجَدْ، بِدَلِيلِ أَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يَجُوزُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ. (وَلَنَا) قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّمَا أَرْضٍ جَفَّتْ فَقَدْ زَكَتْ» أَيْ طَهُرَتْ وَقَالَ: «زَكَاةُ الْأَرْضِ يُبْسُهَا» ثُمَّ النَّجَاسَةُ تَحْرِقُهَا الشَّمْسُ وَتُفَرِّقُهَا الرِّيحُ وَتُحَوِّلُ عَيْنَهَا الْأَرْضُ وَيُنَشِّفُهَا الْهَوَاءُ فَلَا تَبْقَى عَيْنُهَا بَعْدَ تَأْثِيرِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِيهَا فَتَعُودُ الْأَرْضُ كَمَا كَانَتْ قَبْلَ الْإِصَابَةِ، وَقَدْ مَرَّ الْفَرْقُ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالتَّيَمُّمِ، وَالصَّحِيحُ مِنْ الْجَوَابِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَوْضِعٍ تَقَعُ عَلَيْهِ الشَّمْسُ أَوْ لَا تَقَعُ وَبَيْنَ مَوْضِعٍ فِيهِ حَشِيشٌ نَابِتٌ أَوْ لَيْسَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْحَشِيشَ تَابِعٌ لِلْأَرْضِ، فَإِنْ أَصَابَ الْمَوْضِعَ مَاءٌ فَابْتَلَّ أَوْ أُلْقِيَ مِنْ تُرَابِهِ فِي مَاءٍ قَلِيلٍ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ: إحْدَاهُمَا أَنَّهُ يَعُودُ نَجِسًا كَمَا قَبْلَ الْجَفَافِ، وَالْأُخْرَى وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَتَنَجَّسُ؛ لِأَنَّ بَعْدَ الْحُكْمِ بِطَهَارَتِهِ لَمْ يُوجَدْ إلَّا إصَابَةُ الْمَاءِ وَالْمَاءُ لَا يُنَجِّسُ شَيْئًا، بِخِلَافِ مَا إذَا أَصَابَتْ النَّجَاسَةُ الْبِسَاطَ فَذَهَبَ أَثَرُهَا؛ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ تَتَدَاخَلُ فِي أَجْزَاءِ الْبِسَاطِ فَلَا يُخْرِجُهَا إلَّا الْغُسْلُ بِالْمَاءِ، وَلَيْسَ مِنْ طَبْعِ الْبِسَاطِ أَنْ يُحَوِّلَ شَيْئًا إلَى طَبْعِهِ، وَمِنْ طَبْعِ الْأَرْضِ تَحْوِيلُ الْأَشْيَاءِ إلَى طَبْعِهَا، فَإِنَّ الثِّيَابَ إذَا طَالَ مُكْثُهَا فِي التُّرَابِ تَصِيرُ تُرَابًا، فَإِذَا تَحَوَّلَتْ النَّجَاسَةُ إلَى طَبْعِ الْأَرْضِ بِذَهَابِ أَثَرِهَا حَكَمْنَا بِطَهَارَةِ الْمَوْضِعِ لِهَذَا، وَإِنْ كَانَ الْأَثَرُ بَاقِيًا لَمْ تَجُزْ الصَّلَاةُ؛ لِأَنَّ طَهُورَ الْأَثَرِ دَلِيلٌ عَلَى بَقَاءِ النَّجَاسَةِ. قَالَ: (وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُصَلِّيَ عَلَى الثَّلْجِ إذَا كَانَ مُمْكِنًا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْجُدَ عَلَيْهِ) مَعْنَاهُ أَنْ يَكُونَ مَوْضِعُ سُجُودِهِ مُتَلَبِّدًا؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَجِدُ جَبِينُهُ حَجْمَ الْأَرْضِ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَلَبِّدًا حَتَّى لَا يَجِدَ جَبِينُهُ حَجْمَ الْأَرْضِ حِينَئِذٍ لَا يُجْزِيهِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ السُّجُودِ عَلَى الْهَوَاءِ عَلَى هَذَا السُّجُودِ عَلَى الْحَشِيشِ أَوْ الْقُطْنِ إنْ شُغِلَ جَبِينُهُ فِيهِ حَتَّى وَجَدَ حَجْمَ الْأَرْضِ أَجْزَأَ وَإِلَّا فَلَا، وَكَذَلِكَ إذَا صَلَّى عَلَى طِنْفِسَةٍ مَحْشُوَّةٍ جَازَتْ صَلَاتُهُ إذَا كَانَ مُتَلَبِّدًا إلَّا عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ قَالَ: مَا أُبَالِي صَلَّيْتُ عَلَى عَشْرِ طَنَافِسَ أَوْ أَكْثَرَ وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ عَلَى الْحَصِيرِ؛ لِأَنَّهُ عَمَلُ النَّاسِ فِي مَسَاجِدِهِمْ، بِخِلَافِ مَا يَقُولُهُ بَعْضُ مَنْ لَا يُعْتَدَّ بِقَوْلِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الصَّلَاةُ عَلَى الْحَصِيرِ؛ لِأَنَّ سَائِلًا سَأَلَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا «هَلْ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْحَصِيرِ فَإِنِّي سَمِعْتُ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} فَقَالَتْ: لَا» وَلَكِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ شَاذٌّ فَقَدْ اُشْتُهِرَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي عَلَى الْخُمْرَةِ وَهُوَ اسْمٌ لِقِطْعَةِ حَصِيرٍ، وَمَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} أَيْ مُحْتَبَسًا، وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّلَاةُ عَلَى مَا تُنْبِتُهُ الْأَرْضُ أَفْضَلُ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى مَا لَمْ تُنْبِتُهُ الْأَرْضُ، فَلِهَذَا اخْتَارُوا الْحَشِيشَ وَالْحَصِيرَ عَلَى الْبِسَاطِ. قَالَ: (وَيُكْرَهُ أَنْ يَكُونَ قِبْلَةُ الْمَسْجِدِ إلَى حَمَّامٍ أَوْ قَبْرٍ أَوْ مَخْرَجٍ) لِأَنَّ جِهَةَ الْقِبْلَةِ يَجِبُ تَعْظِيمُهَا وَالْمَسَاجِدُ كَذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} وَمَعْنَى التَّعْظِيمِ لَا يَحْصُلُ إذَا كَانَتْ قِبْلَةُ الْمَسْجِدِ إلَى هَذِهِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي لَا تَخْلُو عَنْ الْأَقْذَارِ، وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- قَالَ: هَذَا فِي مَسَاجِدِ الْجَمَاعَةِ، فَأَمَّا فِي مَسْجِدِ الرَّجُلِ فِي بَيْتِهِ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَكُونَ قِبْلَتُهُ إلَى هَذِهِ الْمَوَاضِعِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ حُرْمَةُ الْمَسَاجِدِ حَتَّى يَجُوزَ بَيْعُهُ وَلِلنَّاسِ فِيهِ بَلْوَى، بِخِلَافِ مَسْجِدِ الْجَمَاعَةِ، وَلَوْ صَلَّى فِي مِثْلِ هَذَا الْمَسْجِدِ جَازَتْ صَلَاتُهُ إلَّا عَلَى قَوْلِ بِشْرِ بْنِ غِيَاثٍ الْمَرِيسِيِّ. وَكَذَلِكَ لَوْ صَلَّى فِي أَرْضٍ مَغْصُوبَةٍ أَوْ صَلَّى وَعَلَيْهِ ثَوْبٌ مَغْصُوبٌ عِنْدَهُ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ لَا تَتَأَدَّى بِمَا هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَالنَّهْيُ عِنْدَنَا إذَا لَمْ يَكُنْ لِمَعْنًى فِي الصَّلَاةِ لَا يَمْنَعُ جَوَازَهَا، وَأَصْلُ النَّهْيِ فِي هَذَا الْبَابِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نَهَى عَنْ الصَّلَاةِ فِي سَبْعِ مَوَاطِنَ الْمَجْزَرَةُ وَالْمَزْبَلَةُ وَالْمَقْبَرَةُ وَالْحَمَّامُ وَقَوَارِعُ الطَّرِيقِ وَمَعَاطِنُ الْإِبِلِ وَفَوْقَ ظَهْرِ بَيْتِ اللَّهِ» فَأَمَّا الْمَجْزَرَةُ وَالْمَزْبَلَةُ فَمَوْضِعُ النَّجَاسَاتِ لَا يَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهَا لِانْعِدَامِ شَرْطِهَا وَهُوَ الطَّهَارَةُ مِنْ حَيْثُ الْمَكَانِ، وَأَمَّا الْمَقْبَرَةُ فَقِيلَ إنَّمَا نَهَى عَنْ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّشَبُّهِ بِالْيَهُودِ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ فَلَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي بَعْدِي مَسْجِدًا» وَرَأَى عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ رَجُلًا يُصَلِّي بِاللَّيْلِ إلَى قَبْرٍ فَنَادَاهُ الْقَبْرَ الْقَبْرَ فَظَنَّ الرَّجُلُ أَنَّهُ يَقُولُ: الْقَمَرَ، فَجَعَلَ يَنْظُرُ إلَى السَّمَاءِ فَمَا زَالَ بِهِ حَتَّى بَيَّنَهُ فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَجُوزُ الصَّلَاةُ وَتُكْرَهُ، وَقِيلَ مَعْنَى النَّهْيِ أَنَّ الْمَقَابِرَ لَا تَخْلُو عَنْ النَّجَاسَاتِ، فَالْجُهَّالُ يَسْتَتِرُونَ بِمَا يُشْرِفُ مِنْ الْقُبُورِ فَيَبُولُونَ وَيَتَغَوَّطُونَ خَلْفَهُ، فَعَلَى هَذَا لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ لِانْعِدَامِ طَهَارَةِ الْمَكَانِ. وَمَعْنَى النَّهْيِ فِي الْحَمَّامِ أَنَّهُ مَصَبُّ الْغُسَالَاتِ وَالنَّجَاسَاتِ عَادَةً. فَعَلَى هَذَا إذَا صَلَّى فِي مَوْضِعِ جُلُوسِ الْحَمَّامِي لَا يُكْرَهُ وَقِيلَ مَعْنَى النَّهْيِ أَنَّ الْحَمَّامَ بَيْتُ الشَّيْطَانِ فَعَلَى هَذَا الْكَرَاهَةُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ مِنْهُ سَوَاءٌ غُسِلَ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ أَوْ لَمْ يُغْسَلْ. وَمَعْنَى النَّهْيِ فِي قَوَارِعِ الطَّرِيقِ أَنَّهُ يَسْتَضِرُّ بِهِ الْمَارُّ، فَعَلَى هَذَا إذَا كَانَ الطَّرِيقُ وَاسِعًا لَا يُكْرَهُ وَحَكَى ابْنُ سِمَاعَةَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى كَانَ يُصَلِّي عَلَى الطَّرِيقِ فِي الْبَادِيَةِ، وَقِيلَ: مَعْنَى النَّهْيِ فِي قَوَارِعِ الطُّرُقِ أَنَّهَا لَا تَخْلُو عَنْ الْأَرْوَاثِ وَالْأَبْوَالِ عَادَةً، فَعَلَى هَذَا لَا فَرْقَ بَيْنَ الطَّرِيقِ الْوَاسِعِ وَالضَّيِّقِ. وَمَعْنَى النَّهْيِ فِي مَعَاطِنِ الْإِبِلِ قِيلَ: لِأَنَّهَا لَا تَخْلُو عَنْ النَّجَاسَةِ عَادَةً إلَّا أَنَّهُ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «صَلُّوا فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ وَلَا تُصَلُّوا فِي مَعَاطِنِ الْإِبِلِ» وَفِيمَا يَكُونُ مِنْهَا الْمَعَاطِنُ وَالْمَرَابِضُ سَوَاءٌ، وَقِيلَ: مَعْنَى النَّهْيِ أَنَّ الْإِبِلَ رُبَّمَا تَصُولُ عَلَى الْمُصَلِّي فَيُبْتَلَى بِمَا يُفْسِدُ صَلَاتَهُ، وَهَذَا لَا يُتَوَهَّمُ مِنْ الْغَنَمِ. وَأَمَّا فَوْقَ ظَهْرِ بَيْتِ اللَّهِ، النَّهْيُ عِنْدَنَا لِأَنَّ الْإِنْسَانَ مَنْهِيٌّ عَنْ الصُّعُودِ عَلَى سَطْحِ الْكَعْبَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْكِ التَّعْظِيمِ فَلَا يَمْنَعُ جَوَازَ الصَّلَاةِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ هَذَا النَّهْيُ لِإِفْسَادِ صَلَاتِهِ، حَتَّى إذَا صَلَّى عَلَى سَطْحِ الْكَعْبَةِ وَلَيْسَ بَيْنَ يَدَيْهِ سُتْرَةٌ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ عِنْدَهُ عَلَى مَا بَيَّنَهُ فِي آخِرِ الْكِتَابِ. قَالَ: (وَمَنْ زَحَمَهُ النَّاسُ فَلَمْ يَجِدْ مَوْضِعًا لِلسُّجُودِ فَسَجَدَ عَلَى ظَهْرِ رَجُلٍ أَجْزَأَهُ) لِقَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ اُسْجُدْ عَلَى ظَهْرِ أَخِيكَ فَإِنَّهُ مَسْجِدٌ لَكَ، وَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ حِينَ طَلَبَ مِنْ النَّاسِ أَنْ يُوَسِّعَ الْمَسْجِدَ: أَيُّهَا النَّاسُ إنَّ هَذَا مَسْجِدٌ بَنَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ مَعَهُ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ مَوْضِعًا فَلْيَسْجُدْ عَلَى ظَهْرِ أَخِيهِ وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ: إنْ كَانَ السُّجُودُ عَلَى ظَهْرِ شَرِيكِهِ فِي الصَّلَاةِ يَجُوزُ وَإِلَّا فَلَا؛ لِأَنَّ الْجَوَازَ لِلضَّرُورَةِ وَذَلِكَ عِنْدَ الْمُشَارَكَةِ فِي الصَّلَاةِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: الْمُرَادُ ظَهْرُ الْقَدَمِ، فَأَمَّا إذَا سَجَدَ عَلَى ظَهْرِهِ فَهُوَ رَاكِعٌ لَا سَاجِدٌ فَلَا يُجْزِئُهُ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الرُّخْصَةَ فِيهِ ثَابِتَةٌ شَرْعًا لِلضَّرُورَةِ. وَمَنْ اقْتَدَى بِإِمَامٍ يَنْوِي صَلَاتَهُ وَلَمْ يَدْرِ أَنَّهَا الظُّهْرُ أَوْ الْجُمُعَةُ أَجْزَأَهُ أَيُّهُمَا كَانَ؛ لِأَنَّهُ بَنَى صَلَاتَهُ عَلَى صَلَاةِ الْإِمَامِ، وَذَلِكَ مَعْلُومٌ عِنْدَ الْإِمَامِ فَالْعِلْمُ فِي حَقِّ الْأَصْلِ يُغْنِي عَنْهُ فِي حَقِّ التَّبَعِ وَالْبِنَاءِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ «عَلِيٍّ وَأَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا، فَإِنَّهُمَا قَدِمَا مِنْ الْيَمَنِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ بِمَ أَهْلَلْتُمَا فَقَالَا بِإِهْلَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَوَّزَ ذَلِكَ لَهُمَا» وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا عِنْدَهُمَا وَقْتَ الْإِهْلَالِ، فَإِنْ لَمْ يَنْوِ صَلَاةَ الْإِمَامِ وَلَكِنَّهُ نَوَى الظُّهْرَ وَالِاقْتِدَاءَ إذَا كَانَ إمَامُهُ فِي الْجُمُعَةِ فَصَلَاتُهُ فَاسِدَةٌ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي غَيْرَ صَلَاةِ الْإِمَامِ، وَتَغَايُرُ الْفَرْضَيْنِ يَمْنَعُ الِاقْتِدَاءَ، وَفِي غَيْرِ رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ قَالَ: إذَا نَوَى صَلَاةَ الْإِمَامِ وَالْجُمُعَةَ، فَإِذَا هِيَ الظُّهْرُ جَازَتْ صَلَاتُهُ، وَهَذَا صَحِيحٌ فَقَدْ تَحَقَّقَ الْبِنَاءُ بِنِيَّةِ صَلَاةِ الْإِمَامِ وَلَا يَعْتَبِرُ بِمَا زَادَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَهُوَ كَمَنْ نَوَى الِاقْتِدَاءَ بِهَذَا الْإِمَامِ وَعِنْدَهُ أَنَّهُ زَيْدٌ فَإِذَا هُوَ عَمْرٌو، وَكَانَ الِاقْتِدَاءُ صَحِيحًا، بِخِلَافِ مَا إذَا نَوَى الِاقْتِدَاءَ بِزَيْدٍ، فَإِذَا هُوَ عَمْرٌو. قَالَ: (وَإِذَا صَلَّى الرَّجُلُ الْمَكْتُوبَةَ كَرِهْتُ لَهُ أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى شَيْءٍ إلَّا مِنْ عُذْرٍ)؛ لِأَنَّ فِي الِاعْتِمَادِ تَنْقِيصُ الْقِيَامِ وَلَا يَجُوزُ تَرْكُ الْقِيَامِ فِي الْمَكْتُوبَةِ إلَّا مِنْ عُذْرٍ، فَكَذَلِكَ يُكْرَهُ تَنْقِيصُهُ بِالِاعْتِمَادِ إلَّا مِنْ عُذْرٍ، وَإِنْ فَعَلَ جَازَتْ صَلَاتُهُ لِوُجُودِ أَصْلِ الْقِيَامِ وَلَمْ يُبَيِّنْ الِاعْتِمَادَ فِي التَّطَوُّعِ فَقِيلَ لَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْقِيَامِ يَجُوزُ فِي التَّطَوُّعِ فَتَنْقِيصُهُ أَوْلَى، وَقِيلَ: بَلْ يُكْرَهُ؛ لِأَنَّ فِي الِاعْتِمَادِ بَعْضَ التَّنَعُّمِ وَالتَّجَبُّرِ وَلَا يَنْبَغِي لِلْمُصَلِّي أَنْ يَفْعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بِغَيْرِ عُذْرٍ، وَرُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى فِي الْمَسْجِدِ حَبْلًا مَمْدُودًا فَقَالَ: لِمَنْ هَذَا، فَقِيلَ: لِفُلَانَةَ تُصَلِّي بِاللَّيْلِ، فَإِذَا أَعْيَتْ اتَّكَأَتْ فَقَالَ لِتُصَلِّ فُلَانَةُ بِاللَّيْلِ مَا بَسَطَتْ، فَإِذَا أَعْيَتْ فَلْتَنَمْ». قَالَ: (وَمَنْ نَسِيَ تَكْبِيرَةَ الِافْتِتَاحِ حَتَّى قَرَأَ لَمْ يَكُنْ دَاخِلًا فِي الصَّلَاةِ) وَكَانَ عَطَاءٌ يَقُولُ: تَكْبِيرَةُ الرُّكُوعِ تَنُوبُ عَنْ تَكْبِيرَةِ الِافْتِتَاحِ، وَهَذَا فَاسِدٌ، فَإِنَّ أَرْكَانَ الصَّلَاةِ لَا تَكُونُ إلَّا بَعْدَ التَّحْرِيمَةِ، وَالتَّحْرِيمُ لِلصَّلَاةِ بِالتَّكْبِيرِ يَكُونُ، فَإِذَا لَمْ يُكَبِّرْ لِلِافْتِتَاحِ لَمْ يَكُنْ دَاخِلًا فِي الصَّلَاةِ. قَالَ: (وَإِذَا افْتَتَحَ التَّطَوُّعَ قَائِمًا ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَقْعُدَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَلَهُ ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ اسْتِحْسَانًا) وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ- رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى- لَا يُجْزِئُهُ قِيَاسًا؛ لِأَنَّ الشُّرُوعَ مُلْزِمٌ كَالنَّذْرِ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ قَائِمًا لَمْ يُجْزِهِ أَنْ يَقْعُدَ فِيهِمَا، فَكَذَلِكَ إذَا شَرَعَ قَائِمًا لَمْ يُجْزِهِ أَنْ يَقْعُدَ فِيهِمَا، فَكَذَلِكَ إذَا شَرَعَ قَاعِدًا وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: الْقُعُودُ فِي التَّطَوُّعِ بِلَا عُذْرٍ كَالْقُعُودِ فِي الْفَرْضِ بِعُذْرٍ، ثُمَّ هُنَاكَ لَا فَرْقَ بَيْنَ حَالِ الِابْتِدَاءِ أَوْ الْبَقَاءِ فَكَذَلِكَ هُنَا، وَهَذَا لِأَنَّهُ فِي الِابْتِدَاءِ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ، وَخِيَارُهُ فِيمَا لَمْ يُؤَدِّ بَاقٍ، وَالشُّرُوعُ إنَّمَا يَلْزَمُهُ مَا بَاشَرَ وَلَا صِحَّةَ لِمَا بَاشَرَ إلَّا بِهِ، وَلِلرَّكْعَةِ الْأُولَى صِحَّةٌ بِدُونِ الْقِيَامِ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ بِدَلِيلِ حَالَةِ الْعُذْرِ فَلَمْ يَلْزَمْهُ الْقِيَامُ بِالشُّرُوعِ، بِخِلَافِ النَّذْرِ فَهُوَ الْتِزَامٌ بِالتَّسْمِيَةِ، وَقَدْ نَصَّ فِيهِ عَلَى صِفَةِ الْقِيَامِ وَلَا رِوَايَةَ فِيمَا إذَا أَطْلَقَ النَّذْرَ فَقِيلَ يَلْزَمُهُ بِصِفَةِ الْقِيَامِ اعْتِبَارًا لِمَا يُوجِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا يُوجِبُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مُطْلَقًا، وَقِيلَ: لَا يَلْزَمُهُ لِأَنَّ الْقِيَامَ وَرَاءَ مَا بِهِ يَتِمُّ التَّطَوُّعُ وَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا بِالتَّنْصِيصِ عَلَيْهِ كَالتَّتَابُعِ فِي الصَّوْمِ وَقِيلَ هُوَ عَلَى الْخِلَافِ عَلَى قِيَاسِ مَا مَرَّ فِي الشُّرُوعِ، فَإِنْ افْتَتَحَهَا قَاعِدًا فَقَضَى بَعْضَهَا قَائِمًا وَبَعْضَهَا قَاعِدًا أَجْزَأَهُ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كَانَ يَفْتَتِحُ التَّطَوُّعَ قَاعِدًا فَيَقْرَأُ وِرْدَهُ حَتَّى إذَا بَقِيَ عَشْرُ آيَاتٍ أَوْ نَحْوُهَا قَامَ مَقَامَ قِرَاءَتِهِ ثُمَّ رَكَعَ وَسَجَدَ، وَهَكَذَا كَانَ يَفْعَلُ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ» فَقَدْ انْتَقَلَ مِنْ الْقُعُودِ إلَى الْقِيَامِ وَمِنْ الْقِيَامِ إلَى الْقُعُودِ فَدَلَّ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ فِي التَّطَوُّعِ. قَالَ: (وَإِذَا افْتَتَحَ التَّطَوُّعَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ أَوْ فِي ثَوْبٍ نَجِسٍ لَمْ يَكُنْ دَاخِلًا فِي صَلَاتِهِ وَلَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ)؛ لِأَنَّ الشُّرُوعَ لَمْ يَصِحَّ وَوُجُوبُ الْقَضَاءِ وَالْإِتْمَامِ يَنْبَنِي عَلَيْهِ (وَإِنْ افْتَتَحَهَا نِصْفَ النَّهَارِ أَوْ حِينَ تَحْمَرُّ الشَّمْسُ أَوْ عِنْدَ طُلُوعِهَا، فَإِنْ صَلَّى كَذَلِكَ فَقَدْ أَسَاءَ وَلَا يَبْنِي عَلَيْهِ)؛ لِأَنَّهُ أَدَّاهَا كَمَا شُرِعَ فِيهَا، وَإِنْ قَطَعَهَا فَعَلَيْهَا الْقَضَاءُ إلَّا عَلَى قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى، فَإِنَّهُ يَعْتَبِرُ الشُّرُوعَ فِي الصَّلَاةِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَةِ بِالشُّرُوعِ فِي صَوْمِ يَوْمَ النَّحْرِ، لَعَلَّهُ أَنْ يَرْتَكِبَ الْمَنْهِيَّ، وَالْفَرْقُ لَنَا أَنَّ بِالشُّرُوعِ هُنَاكَ يَصِيرُ صَائِمًا مُرْتَكِبًا لِلْمَنْهِيِّ، وَهَا هُنَا بِنَفْسِ الشُّرُوعِ لَا يَصِيرُ مُصَلِّيًا مَا لَمْ يُقَيِّدْ الرَّكْعَةَ بِالسَّجْدَةِ وَارْتِكَابِ الْمَنْهِيِّ فِيهِ، وَلِأَنَّ هُنَاكَ لَا يُتَصَوَّرُ الْأَدَاءُ بِذَلِكَ الشُّرُوعِ إلَّا بِصِفَةِ الْكَرَاهَةِ، وَهَا هُنَا يُتَصَوَّرُ بِأَنْ يَصْبِرَ حَتَّى يَذْهَبَ الْوَقْتُ فَلِهَذَا أَلْزَمْنَاهُ الْقَضَاءَ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا سَبَقَ أَنَّ الشُّرُوعَ كَالنَّذْرِ، وَالنَّذْرُ بِالصَّلَاةِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ يَصِحُّ فَكَذَلِكَ الشُّرُوعُ، فَأَمَّا النَّذْرُ بِالصَّلَاةِ بِغَيْرِ وُضُوءٍ لَا يَصِحُّ وَهُنَا مَسَائِلُ. إذَا نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ بِغَيْرِ وُضُوءٍ أَوْ عُرْيَانًا أَوْ بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْمَوَاضِعِ كُلِّهَا يَلْزَمُهُ مَا سَمَّى فِي الصَّلَاةِ الصَّحِيحَةِ وَمَا زَادَ فِي كَلَامِهِ فَهُوَ لَغْوٌ، وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا؛ لِأَنَّ مَا سَمَّاهُ فِي نَذْرِهِ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا سَمَّى مَا لَا يَجُوزُ أَدَاءُ الصَّلَاةِ مَعَهُ بِحَالٍ كَالصَّلَاةِ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَإِذَا سَمَّى مَا يَجُوزُ أَدَاءُ الصَّلَاةِ مَعَهُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ كَالصَّلَاةِ بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ تَلْزَمُهُ. قَالَ: (وَإِنْ افْتَتَحَ صَلَاةَ التَّطَوُّعِ وَقْتَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ثُمَّ قَطَعَهَا ثُمَّ قَضَاهَا وَقْتَ تَغَيُّرِ الشَّمْسِ أَجْزَأَهُ)؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَتَمَّهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَجْزَأَهُ فَكَذَلِكَ إذَا قَضَاهَا فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْوَقْتِ. قَالَ: (وَإِذَا صَلَّتْ الْمَرْأَةُ وَهِيَ حَامِلَةٌ ابْنَتَهَا أَجْزَأَهَا) لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَلِّي فِي بَيْتِهِ وَأُمَامَةُ بِنْتُ أَبِي الْعَاصِ يَحْمِلُهَا عَلَى عَاتِقِهِ، فَكَانَ إذَا سَجَدَ وَضَعَهَا، وَإِذَا قَامَ رَفَعَهَا» قَالَ: (وَهِيَ مُسِيئَةٌ فِي ذَلِكَ) لِأَنَّهَا شَغَلَتْ نَفْسَهَا بِمَا لَيْسَ مِنْ أَعْمَالِ صَلَاتِهَا، وَأَدْنَى مَا فِيهِ أَنَّ ذَلِكَ يَمْنَعُهَا مِنْ سُنَّةِ الِاعْتِمَادِ (فَإِنْ قِيلَ:) وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَا يَفْعَلُ فِي صَلَاتِهِ مَا هُوَ مَكْرُوهٌ (قُلْنَا:) تَأْوِيلُهُ أَنَّهُ كَانَ فِي وَقْتٍ كَانَ الْعَمَلُ فِي الصَّلَاةِ مُبَاحًا أَوْ لَمْ يَكُنْ الِاعْتِمَادُ سُنَّةً. قَالَ: (وَإِنْ صَلَّى وَفِي فَمِهِ شَيْءٌ يُمْسِكُهُ جَازَتْ صَلَاتُهُ) وَهَذَا إذَا كَانَ فِي فَمِهِ دِرْهَمٌ أَوْ دِينَارٌ أَوْ لُؤْلُؤَةٌ عَلَى وَجْهٍ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ الْقِرَاءَةِ، فَإِنْ كَانَ يَمْنَعُهُ مِنْ الْقِرَاءَةِ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ أَكْلٌ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ فِي فَمِهِ سُكَّرَةٌ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ أَكْلٌ وَلِذَلِكَ إنْ كَانَ فِي كَفِّهِ مَتَاعٌ يُمْسِكُهُ جَازَتْ صَلَاتُهُ كَمَا لَوْ تَرَكَ الِاعْتِمَادَ أَوْ وَضَعَ الْيَدَيْنِ عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ فِي الرُّكُوعِ. وَالْمُصَلِّي قَاعِدًا تَطَوُّعًا أَوْ فَرِيضَةً بِعُذْرٍ يَتَرَبَّعُ وَيَقْعُدُ كَيْفَ شَاءَ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ، إنْ شَاءَ مُحْتَبِيًا، وَإِنْ شَاءَ مُتَرَبِّعًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ لَهُ تَرْكُ أَصْلِ الْقِيَامِ فَتَرْكُ صِفَةِ الْقُعُودِ أَوْلَى، وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقْعُدُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ كَمَا يَفْعَلُهُ فِي التَّشَهُّدِ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ يُؤَدِّي جَمِيعَ صَلَاتِهِ مُتَرَبِّعًا فِي حَالِ قِيَامِهِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ قَعَدَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ لِيَكُونَ أَيْسَرَ عَلَيْهِ. قَالَ: (وَإِذَا صَلَّى فَوْقَ الْمَسْجِدِ مُقْتَدِيًا بِالْإِمَامِ أَجْزَأَهُ) لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ وَقَفَ عَلَى سَطْحِ الْمَسْجِدِ وَاقْتَدَى بِالْإِمَامِ وَهُوَ فِي جَوْفِهِ، وَهَذَا إذَا كَانَ وُقُوفُهُ خَلْفَ الْإِمَامِ أَوْ بِحِذَائِهِ، فَإِذَا كَانَ مُتَقَدِّمًا عَلَيْهِ لَمْ يُجْزِهِ كَمَا لَوْ افْتَتَحَهَا فِي جَوْفِ الْمَسْجِدِ قَالَ: (وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ عَلَى سَطْحٍ بِجَنْبِ الْمَسْجِدِ وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا طَرِيقٌ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُ لِأَنَّهُ تَرَكَ مَكَانَ الصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ. (وَلَنَا) أَنَّ اقْتِدَاءَهُ وَهُوَ عَلَى سَطْحٍ بِجَنْبِ الْمَسْجِدِ بِمَنْزِلَةِ اقْتِدَائِهِ بِهِ وَهُوَ فِي جَوْفِ الْمَسْجِدِ مَعَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُشْتَبَهُ عَلَيْهِ حَالُ إمَامِهِ وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا مَانِعٌ مِنْ الِاقْتِدَاءِ فَلِهَذَا جَوَّزْنَاهُ. قَالَ: (وَلَا بَأْسَ بِالصَّلَاةِ فِي بَيْتٍ فِي قِبْلَتِهِ تَمَاثِيلُ مَقْطُوعَةُ الرَّأْسِ) لِأَنَّ التِّمْثَالَ تِمْثَالٌ بِرَأْسِهِ فَبِقَطْعِ الرَّأْسِ يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ تِمْثَالًا، بَيَانُهُ فِيمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُهْدِيَ إلَيْهِ ثَوْبٌ عَلَيْهِ تِمْثَالُ طَائِرٍ فَأَصْبَحُوا، وَقَدْ مَحَا وَجْهَهُ» وَرُوِيَ «أَنَّ جِبْرِيلَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ اسْتَأْذَنَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَذِنَ لَهُ فَقَالَ كَيْف أَدْخُلُ وَفِي الْبَيْتِ قِرَامٌ فِيهِ تِمْثَالُ خُيُولِ رِجَالٍ، فَإِمَّا أَنْ تَقْطَعَ رُءُوسَهَا أَوْ تُتَّخَذُ وَسَائِدَ فَتُوطَأُ»، وَلِأَنَّ بَعْدَ قَطْعِ الرَّأْسِ صَارَ بِمَنْزِلَةِ تَمَاثِيلِ الشَّجَرِ وَذَلِكَ غَيْرُ مَكْرُوهٍ إنَّمَا الْمَكْرُوهُ تِمْثَالُ ذِي الرُّوحِ، هَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّهُ نَهَى مُصَوِّرًا عَنْ التَّصْوِيرِ فَقَالَ: كَيْفَ أَصْنَعُ وَهُوَ كَسْبِي قَالَ: إنْ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ فَعَلَيْكَ بِتِمْثَالِ الْأَشْجَارِ، وَإِنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ مَنْ صَوَّرَ تِمْثَالَ ذِي الرُّوحِ كُلِّفَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ يَنْفُخَ فِيهِ الرُّوحَ وَلَيْسَ بِنَافِخٍ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَقْطُوعَةَ الرَّأْسِ كَرِهْتُهَا فِي الْقِبْلَةِ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَشْبِيهًا بِمَنْ يَعْبُدُ الصُّوَرَ، وَلَكِنَّ هَذَا إذَا كَانَ كَبِيرًا يَبْدُو لِلنَّاظِرِينَ مِنْ بَعِيدٍ، فَإِنْ كَانَ صَغِيرًا فَلَا بَأْسَ؛ لِأَنَّ مَنْ يَعْبُدُ الصُّورَةَ لَا يَعْبُدُ الصَّغِيرَ مِنْهَا جِدًّا، وَقَدْ كَانَ عَلَى خَاتَمِ أَبِي مُوسَى ذُبَابَتَانِ، وَلَمَّا وُجِدَ خَاتَمُ دَانْيَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ كَانَ عَلَى فَصِّهِ أَسَدَانِ بَيْنَهُمَا رَجُلٌ يَلْحَسَانِهِ كَأَنَّهُ كَانَ يَحْكِي بِهَذَا الِابْتِدَاءِ، أَوْ لِأَنَّ التِّمْثَالَ فِي شَرِيعَةِ مَنْ قَبْلِنَا كَانَ حَلَالًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ} وَكَمَا يُكْرَهُ فِي الْقِبْلَةِ يُكْرَهُ فِي السَّقْفِ أَوْ عَنْ يَمِينِ الْقِبْلَةِ أَوْ عَنْ يَسَارِهَا؛ لِأَنَّ الْأَثَرَ قَدْ جَاءَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ أَوْ صُورَةٌ فَيَجِبُ تَنْزِيهُ مَوَاضِعِ الصَّلَاةِ عَنْ ذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَتْ الصُّورَةُ عَلَى الْحَائِطِ الَّذِي هُوَ خَلْفَ الْمُصَلِّي فَالْكَرَاهَةُ فِيهِ أَيْسَرُ؛ لِأَنَّ مَعْنَى التَّعْظِيمِ وَالتَّشْبِيهِ بِمَنْ يَعْبُدُ الصُّوَرَ تَنْعَدِمُ هُنَا، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ الصُّورَةُ عَلَى الْأَرْضِ وَالْأُزُرِ وَالسُّتُورِ، وَأَمَّا عَلَى الْبِسَاطِ فَنَقُولُ: اتِّخَاذُ الصُّورَةِ عَلَى الْبِسَاطِ مَكْرُوهٌ، وَلَكِنْ لَا بَأْسَ بِالنَّوْمِ وَالْجُلُوسِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْبِسَاطَ يُوطَأُ فَلَا يَحْصُلُ فِيهِ مَعْنَى التَّعْظِيمِ، وَكَذَلِكَ الْوِسَادَةُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ أَوْ تُتَّخَذُ وَسَائِدَ فَتُوطَأُ، فَإِنْ كَانَ الْمُصَلِّي عَلَى الْبِسَاطِ إنْ كَانَتْ الصُّورَةُ فِي مَوْضِعِ وَجْهِهِ أَوْ أَمَامَهُ فَهُوَ مَكْرُوهٌ؛ لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى التَّعْظِيمِ يَحْصُلُ بِتَقَرُّبِ الْوَجْهِ مِنْ الصُّورَةِ، وَإِنْ كَانَتْ فِي مَوْضِعِ قَدَمَيْهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى التَّعْظِيمِ فِيهِ لَا يَحْصُلُ فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ عَلَى كُلٍّ؛ لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ لَيْسَتْ لِمَعْنًى رَاجِعٍ إلَى الصَّلَاةِ. قَالَ: (رَجُلٌ قَارِئٌ دَخَلَ فِي صَلَاةِ أُمِّيٍّ تَطَوُّعًا أَوْ فِي صَلَاةِ امْرَأَةٍ أَوْ جُنُبٍ ثُمَّ أَفْسَدَهَا عَلَى نَفْسِهِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا)؛ لِأَنَّ شُرُوعَهُ فِي الصَّلَاةِ لَمْ يَصِحَّ حِينَ اقْتَدَى بِمَنْ لَا يَصْلُحُ إمَامًا لَهُ وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَدَاءِ الصَّلَاةِ خَلْفَهُ، وَوُجُوبُ الْقَضَاءِ يَكُونُ بِالْإِفْسَادِ بَعْدَ صِحَّةِ الشُّرُوعِ. قَالَ: (وَإِذَا وَقَفَتْ جَارِيَةٌ مُرَاهِقَةٌ تَعْقِلُ الصَّلَاةَ بِجَنْبِ رَجُلٍ خَلْفَ الْإِمَامِ وَهُمَا فِي صَلَاتِهِ فَسَدَتْ صَلَاةُ الرَّجُلِ) اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ لَا تَفْسُدُ؛ لِأَنَّ صَلَاةَ غَيْرِ الْبَالِغَةِ تَخَلُّقٌ وَلَيْسَتْ بِصَلَاةٍ حَقِيقِيَّةٍ، وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهَا تُؤْمَرُ بِالصَّلَاةِ وَتُضْرَبُ عَلَى ذَلِكَ كَمَا وَرَدَ بِهِ الْحَدِيثُ، فَكَانَتْ كَالْبَالِغَةِ فِي الْمُشَارَكَةِ فِي أَصْلِ الصَّلَاةِ، وَعَلَيْهِ يَنْبَنِي الْفَسَادُ بِسَبَبِ الْمُحَاذَاةِ؛ لِأَنَّهَا تُشْتَهَى فَلَا يَصْفُو قَلْبُ الرَّجُلِ عَنْ الشَّهْوَةِ فِي حَالِ الْمُنَاجَاةِ عِنْدَ مُحَاذَاتِهَا، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ هُنَا قَالَ: أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ صَلَّتْ بِغَيْرِ وُضُوءٍ أَوْ عُرْيَانَةً أَمَرْتُهَا أَنْ تُعِيدَ الصَّلَاةَ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تُؤْمَرُ بِالصَّلَاةِ لِتَتَعَوَّدَ فَلَا يُشَقُّ عَلَيْهَا إذَا بَلَغَتْ، وَذَلِكَ إذَا أَدَّتْ بِصِفَةٍ يَجُوزُ أَدَاؤُهَا بِتِلْكَ الصِّفَةِ بَعْدَ الْبُلُوغِ بِحَالٍ، فَإِنْ أَدَّتْ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ أَوْ عُرْيَانَةً لَا يَحْصُلُ هَذَا الْمَقْصُودُ فَلِهَذَا أُمِرَتْ بِالْإِعَادَةِ، وَلَوْ صَلَّتْ بِغَيْرِ قِنَاعٍ، فِي الْقِيَاسِ تُؤْمَرُ بِالْإِعَادَةِ كَمَا إذَا صَلَّتْ عُرْيَانَةً؛ لِأَنَّ الرَّأْسَ مِنْهَا عَوْرَةٌ وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ: تُجْزِئُهَا صَلَاتُهَا لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ حَائِضٍ إلَّا بِخِمَارٍ» مَعْنَاهُ صَلَاةَ بَالِغَةٍ فَثَبَتَ أَنَّ صَلَاةَ غَيْرِ الْبَالِغَةِ تَجُوزُ بِغَيْرِ الْخِمَارِ، وَلِأَنَّ مِنْ الْبَالِغَاتِ مَنْ تُصَلِّي بِغَيْرِ قِنَاعٍ وَهِيَ الْمَمْلُوكَةُ وَتَجُوزُ صَلَاتُهَا فَصَلَاةُ غَيْرِ الْبَالِغَةِ أَوْلَى، بِخِلَافِ الْعُرْيَانَةِ. قَالَ: (وَلِلْأَمَةِ أَنْ تُصَلِّيَ بِغَيْرِ قِنَاعٍ) لِحَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ إذَا رَأَى جَارِيَةً مُتَقَنِّعَةً عَلَاهَا بِالدِّرَّةِ وَقَالَ: أَلْقِي عَنْكِ الْخِمَارَ يَا دَفَارِ أَتَتَشَبَّهِينَ بِالْحَرَائِرِ وَكَذَلِكَ الْمُكَاتَبَةُ وَالْمُدَبَّرَةُ وَأُمُّ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ قَائِمٌ فِيهِنَّ فَلَيْسَ لِرُءُوْسِهِنَّ حُكْمُ الْعَوْرَةِ، فَإِنْ أُعْتِقَتْ فِي صَلَاتِهَا أَخَذَتْ قِنَاعَهَا وَمَضَتْ فِي صَلَاتِهَا اسْتِحْسَانًا، وَفِي الْقِيَاسِ تَسْتَقْبِلُ كَالْعُرْيَانَةِ إذَا وَجَدَتْ ثَوْبًا فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ فَرْضَ السَّتْرِ لَزِمَهَا فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ مَقْصُورًا عَلَيْهَا، وَقَدْ أَتَتْ بِهِ كَمَا لَزِمَهَا، بِخِلَافِ الْعُرْيَانَةِ؛ لِأَنَّ فَرْضَ السَّتْرِ كَانَ عَلَيْهَا الشُّرُوعُ، وَلَكِنَّهَا كَانَتْ عُرْيَانَةً بِعُذْرِ الْعَجْزِ، فَإِذَا أُزِيلَ اسْتَقْبَلَتْ كَالْمُتَيَمِّمِ إذَا وَجَدَ الْمَاءَ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ تَوَضَّأَ وَاسْتَقْبَلَ، وَالْمُتَوَضِّئُ إذَا سَبَقَهُ الْحَدَثُ تَوَضَّأَ وَبَنَى عَلَى صَلَاتِهِ فَهَذَا مِثْلُهُ.
|